ثم بين - سبحانه - أن ما ساقه فى هذه القرآن عن أحوال السابقين فيه العبرة لمن اعتبر ، وفيه العظة لمن خاف عذاب الآخرة الذى ينقسم الناس فيه إلى شقى وسعيد ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ . . . }
أى { إِنَّ فِي ذلك } القصص الذى قصصناه عليك - يا محمد - والمشتمل على بيان سنة الله التى لا تتخلف فى إهلاك الظالمين .
{ لآية } أى : لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، وحجة واضحة .
{ لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } لأنه هو المنتفع بالعبر والعظات لصدق إيمانه ، وصفاء نفسه ، وإيقانه بأن هناك فى الآخرة ثوابا وعقابا ، وحسابا على الأعمال الدنيوية . .
أما الذى ينكر الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، فإنه لا يعتبر بما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى دمرهم تدميرا ، بل ينسب ذلك إلى طبيعة أو فلكية أو غيرهما ، لا علاقة لها بكفرهم وظلمهم وطغيانهم . . .
" لأن الخائف من عذاب الآخرة ، عندما يرى ما حل بالمجرمين فى الدنيا من عقاب ، يزداد إيمانا على إيمانه ، وتصديقا على تصديقه ، بأن الله - تعالى - قادر على أن يعذبهم فى الآخرة عذابا أشد وأبقى من عذاب الدنيا . . . "
ثم بين - سبحانه - أن يوم القيامة آت لا ريب فيه فقال : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }
واسم الإِشارة فى الموضعين ، يعود إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر عذاب الآخرة قبل ذلك ، واللام فى قوله - سبحانه - { مَّجْمُوعٌ لَّهُ } لام العلة .
أى : ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، يوم يجمع الناس فيه لأجل محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم ، ويشهده جميع الخلائق الذين يؤمرون بشهوده ، دون أن يغيب منهم أحد قال صاحب الكشاف : و { الناس } رفع باسم المفعول الذى هو { مجموع } كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس .
فإن قلت : لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله ؟
قلت : لما فى اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنه يوم لابد من أن يكون ميعادا مضروبا لجمع الناس له ، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت - أيضا - لإِسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه .
ونظيره قول المهدد : إنك لمنهوب مالك ، محروب قومك ، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس فى الفعل . . .
والمراد بالمشهود : الذى كثر شاهدوه ، ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود ، وطعام محضور . . . والغرض من ذلك ، وصف هذا اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام ، بأنه اليوم الذى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مّجْمُوعٌ لّهُ النّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مّشْهُودٌ } .
يقول تعالى ذكره : إن في أخذنا مَن أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرها عليكم أيها الناس { لآية } ، يقول : لعبرة وعظة لمن خاف عقاب الله وعذابه في الاَخرة من عباده ، وحجة عليه لربه ، وزاجرا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه . وقيل : بل معنى ذلك : إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الاَخرة بأن الله سيفي له بوعده . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إ{ نّ فِي ذلكَ لآيَةً لِمَنْ خافَ عَذَابَ الاَخِرَةِ } ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الاَخرة ، كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم . وقوله : { ذلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ } ، يقول تعالى ذكره : هذا اليوم ، يعني : يوم القيامة ، { يوْمٌ مجموعٌ له الناس } ، يقول : يحشر الله الناس من قبورهم ، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب . { وَذَلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } ، يقول : وهو يوم تشهده الخلائق لا يتخلف منهم أحد ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذب رسله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، في قوله : { ذلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } ، قال : يوم القيامة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن عكرمة ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف المكيّ ، عن ابن عباس ، قال : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم القيامة . ثم قرأ : { ذلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عليّ بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم القيامة . ثم تلا هذه الآية : { ذلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } .
حُدثت عن المسيب عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : { ذلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } ، قال : ذلك يوم القيامة ، يجتمع فيه الخلق كلهم ، ويشهده أهل السماء وأهل الأرض .
بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح . والمعنى : وكذلك أخذ ربك فاحْذروه وحذروا ما هو أشدّ منه وهو عذاب الآخرة . والإشارة إلى الأخذ المتقدّم . وفي هذا تخلّص إلى موعظة المسلمين والتّعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله : { وما يعقلها إلاّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .
وجُعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأنّ القرى الظالمة توعّدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى : { وإنّ للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } [ الطور : 47 ] فلمّا عاينوا عذاب الدّنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر .
وجملة { ذلك يوم مجموع له الناس } معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتّى أنّ المتكلّم يبتدىء كلاماً لأجل وصفه .
والإشارة ب { ذلك } إلى الآخرة لأنّ ماصدقها يومُ القيامة ، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة .
واللاّم في { مجموع له } لام العلّة ، أي مجموع الناس لأجله .
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدلّ على معنى الثّبات ، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم ، فيدلّ على تمكن تعلق الجمع بالنّاس وتمكّن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتّى لقّب ذلك اليوم يومَ الجمع في قوله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } [ التغابن : 9 ] .
وعطف جملة { وذلك يوم مشهود } على جملة { ذلك يوم مجموع له الناس } لزيادة التّهويل لليوم بأنّه يُشهد . وطُوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشّاهدون ، إذ ليس القصد إلى شاهِدين معيّنين . والإخبار عنه بهذا يُؤذن بِأنّهم يشهدونه شهوداً خاصاً وهو شهود الشيء المهول ، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرّد كونه مرئياً لكن المراد كونه مرئياً رؤية خاصة .
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقّق أيّ مشهود بوقوعه ، كما يقال : حقّ مشهود ، أيْ عليه شهود لا يستطاع إنكاره ، واضح للعيان .
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشّاهدين إياه لشهرته ، كقولهم : لفلان مجلس مشهود ، كقول أم قيس الضبّيّة :
ومشهد قد كفيتَ الناطقين به *** في محفل من نواصي الخيل مَشهود
فيكون من نحو قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذٍ يوَدّ الذين كفروا } [ النساء : 41 ، 42 ] الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.