ثم حكى القرآن بعد ذلك لوناً من جبنهم وعجزهم من مصارحة المؤمنين بالحقائق ، فقال - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله . . . الخزي العظيم } .
قال القرطبى : روى قوماً من المنافقين اجتمعوا ، وفيهم غلاما من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه تكلموا فقالوا : إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير . فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم لحق ، ولأنتم شر من الحمير . ثم أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقولهم فحلفوا إن عامرا كاذب .
فقال عامر : هم الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله هذه الآية .
فقوله - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } خطاب للمؤمنين الذين كان المنافقون يذكرونهم بالسوء ، ثم يأتون إليهم بعد ذلك معتذرين .
أى : إن هؤلاء المافقين يحلفون بالله لكم - أيها المؤمنون - ليرضوكم ، فتطمئنوا إليهم ، وتقبلوا معاذيرهم .
قال أبو السعود : وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للإِيذان بأن ذلك بمعز عن أن يكون وسيلة لإرضائه ، وأنه - عليه الصلاة والسلام - إنما لم يكذبهم رفقا بهم ، وسترا لعيوبهم ، لا عن رضا بما فعلوا ، وقبول قلبى لما قالوا . .
وقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } جملة حالية في محل نصب من ضمير " يحلفون " جئ بها لتوبيخهم على إيثارهم رضا الناس على رضا الله ورسوله .
أى : هم يحلفون لكم ، والحال أن رسوله أحق بالإِرضاء منكم لأن الله - تعالى هو خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم ، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم . ولأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ لوحيه - عز وجل - .
قال صاحب المنار ما ملخصه : وكان الظاهر أن يقال : " يرضوهما " ونكتة العدول عنه إلى " يرضوه " : الإِعلام بأن إرضاء رسوله عين إرضائه سبحانه . . وهذا من بلاغة القرآن في نفس الإيجاز . ولو قال " يرضوهما " لما أفاد هذا المعنى ؛ إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر ، وهو خلاف المراد هنا ، وكذلك لو قيل : " والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه " لا يفيد هذا المعنى أيضاً وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل . .
وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم . . وأقرب الأقوال إلأى قواعدهم قول سيبويه : إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه ، كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف . . . فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربى ، ولكن تفوت به النكتة الى ذكرناها . . .
وقوله : { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به بيان أن الإِيمان الحق لا يتم إلا بإرضاء الله ورسوله عن طريق طاعتهما والانقياد لأوامرهما .
أى : إن كانوا مؤمنين حقاً ، فليعملوا على إرضاء الله ورسوله ، بأن يطيعوا أوامرهما ، ويجتنبوا نواهيهما ، وإلا كانوا كاذبين في دعواهم الإِيمان
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم : يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون بالله ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرهم إياه ، بالطعن عليه والعيب له ، ومطابقتهم سرّا أهل الكفر عليكم بالله ، والأيمان الفاجرة أنهم ما فعلوا ذلك وإنهم لعلى دينكم ومعكم على من خالفكم ، يبتغون بذلك رضاكم . يقول الله جلّ ثناؤه : وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا ، إنْ كانُوا مُؤْمِنينَ يقول : إن كانوا مصدّقين بتوحيد الله ، مقرّين بوعده ووعيده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَحْلِفُونَ بالله لكم لِيُرْضُوكُمْ . . . الآية ، ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنَا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شرّ من الحمير قال : فسمعها رجل من المسلمين ، فقال : والله إن ما يقول محمد حقّ ، ولأنت شرّ من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى الرجل فدعاه ، فقال له : «ما حَمَلَكَ على الذي قُلْتَ ؟ » فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك ، قال : وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صَدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله في ذلك : يَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ واللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ .
وقوله تعالى : { يحلفون بالله لكم } الآية ، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب ، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل ، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فأنا شر من الخمر ، فبلغ قوله رسول الله صلى الله وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهداً أنه ما فعل ، فنزلت الآية في ذلك{[5760]} ، وقوله { والله } مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر : [ المنسرح ]
نحن بما عندنا وأنت بما عن*** دك راضٍ والرأي مختلفُ{[5761]}
ومذهب المبرد أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير ، حكاه النقاش عنه ، وليس هذا بشيء ، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما » فجمع في ضمير ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت » إنما ذلك وقف في«يعصهما » فأدخل العاصي في الرشد{[5762]} ، وقيل الضمير في { يرضوه } عائد على المذكور كما قال رؤبة : [ الرجز ] .
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ*** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ{[5763]}