وبعد أن نفى - سبحانه - عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين فى أدنى مراتب الظن مع أن أعلاها لا يغنى من الحق شيئاً ، ووصمهم بالكذب فيما يدعونه .
بعد كل ذلك أثبت لذاته - سبحانه - فى مقابلة ذلك الحجة العليا التى لا تعلوها حجة فقال :
{ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
الحجة : كما قال الراغب فى مفرداته : الدلالة المبينة للمحجة ، أى : المقصد المستقيم .
أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين بنوا قواعد دينهم على الظن والكذب بعد أن عجزوا عن الإثبات بأدنى دليل على مزاعمهم ، قل لهم : لله وحده الحجة البالغة . أى البينة الواضحة التى بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة ، والتى وصلت إلى أعلى درجات الكمال فى قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها .
وقوله . { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أى : لو شاء - سبحانه - هدايتكم جميعا لفعل ؛ لأنه لا يعجزه شىء ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق ، وشاء ضلالة آخرين ، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل .
ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله .
نحن معكم فى أنه لا يقع فى ملكه - سبحانه - هدايتكم جميعا لفعل ؛ لأنه لا يعجزه شىء ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق ، وشاء ضلالة آخرين ، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل .
ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله .
نحن معكم فى أنه لا يقع فى ملكه - سبحانه - إلا ما يشاؤه ، فالطائع تحت المشيئة والعاصى تحت المشيئة ، ولكن المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون ، وليس العلم صفة تأثير وجبر .
ولقد شاء الله - تعالى - أن يجعل فى طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر ، ووهبهم العقل ليهتدوا به وأرسل إليهم الرسل لينموا فيهم استعدادهم وسن لهم شريعة لتكون مقياساً ثابتا لما يأخذون وما يدعون ، كى لا يتركهم لعقولهم وحدها .
وإذن مشيئة الله متحققة حسب سنته التى ارتضاها مختارا - وهو قادر على اختيار غيرها وعلى تغييرها وتبديلها - متحققة سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال ، وهو مؤاخذ إن ضل ومأجور إذا اهتدى .
غير أن سنة الله اقتضدت أن من يفتح عينه يبصر النور ، ومن يغمضها لا يراه ، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى . ومن يحجب قلبه عنها يضل ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .
وإذن فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا على معنى أنه أجبرهم عليه فهم لا يستطيعون عنه فكاكا ، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح فإن المشيئة الإلهية لها سنة تقيدت بها ، وهذه السنة هى أنه لا جبر على طاعة ولا قسر على معصية .
وتقرير ذلك يؤخذ من قوله - تعالى - { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أى : فلو شاء أن يكرهكم ويفرض هدايتكم بقدرته وقدره لهداكم ، ولكنه لم يشأ إجباركم على الضلالة ، فهى مشيئة المنح والتيسير وليست مشيئة الإلجاء والتسخير قال - تعالى - { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين على ربهم الكذب في تحريمهم ما حرّموا من الحروث والأنعام ، إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم : هل عندكم من علم بما تدّعون على ربكم فتخرجوه لنا ، وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره ، وهم لا شكّ عن ذلك عجزة ، وعن إظهاره مقصرّون ، لأنه باطل لا حقيقة له . فلِلّهِ الذي حرّم عليكم أن تشركوا به شيئا ، وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ، الحُجّةُ البَالِغَةُ دونكم أيها المشركون . ويعني بالبالغة : أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتجّ بها عليه من خلقه ، وقَطْعِ عذره إذا انتهت إليه فيما جعلت حجة فيه . فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أجمَعينَ يقول : فلو شاء ربكم لوفقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة والبراءة من الأنداد والاَلهة والدينونة ، بتحريم ما حرّم الله وتحليل ما حلله الله ، وترك اتباع خطوات الشيطان ، وغير ذلك من طاعاته . ولكنه لم يشأ ذلك ، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم ، فمنهم كافر ومنهم مؤمن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : لا حجة لأحد عصى الله ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال : فَلَوْ شَاءَ لَهَداكُمْ أجمَعِينَ قال : لا يَسُئلُ عَمّا يفْعَلُ وَهُمْ يُسْئلُونَ .
ثم أعقب تعالى أمره نبيه صلى الله عليه وسلم بتوقيف المشركين على موضع عجزهم بأمره إياه بأن يقول مبيناً مفصحاً { فلله الحجة البالغة } يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج فيه ، ثم أعلم بأنه لو شاء لهدى العالم بأسره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الآية ترد على المعتزلة في قولهم إن الهداية والإيمان إنما هي من العبد لا من الله ، فإن قالوا معنى { لهداكم } لاضطركم إلى الهدى فسد ذلك بمعتقدهم أن الإيمان الذي يريد الله من عباده ويثيب عليه ليس الذي يضطر إليه العبد ، وإنما هو عندهم الذي يقع من العبد وحده .
جواب عن قولهم : { لو شاء الله ما أشرَكْنا ولا آباؤنا } [ الأنعام : 148 ] تكملة للجواب السّابق لأنَّه زيادة في إبطال قولهم ، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل .
وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لِما سيرد بعد فعل : { قل } وقد كرّر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف ، والنكتة ما تقدم من كون القول جارياً على طريقة المقاولة .
والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدّر هو شرط ، والتّقدير : فإن كان قولكم لمجرّد اتّباع الظنّ والخرص وسوء التّأويل فللّه الحجّة البالغة . وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص ، أي : لله لا لكم ، ففهم منه أنّ حجتّهم داحضة .
والحجّة : الأمر الذي يدلّ على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدلّ وجه الحقّ ، وتقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { لئلا يكون للنّاس عليكم حجّة } في سورة البقرة ( 150 ) .
والبالغة هي الواصلة : أي الواصلة إلى ما قُصدت لأجله ، وهو غَلَب الخصم ، وإبطالُ حجّته ، كقوله تعالى : { حِكْمة بالغة } [ القمر : 5 ] ، فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشّيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة مكنيّة في الحجّة بأن تشبّه بسائر إلى غاية ، وقرينتها إثباتُ البلوغ ، ولا حاجة أيضاً إلى جعل إسناد البلوغ إلى الحجّة مجازاً عقلياً ، أي بالغاً صاحبُها قَصْدَه ، لأنَّه لا محيصّ من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ ، فالتّفسير به من أوّل وهلة أولى ، والمعنى : لله الحجّة الغالبة لكم ، أي وليس استدلالُكم بحجّة .
والفاء في قوله : { فلو شاء } فاء التّفريع على ظهور حجّة الله تعالى عليهم : تفرع على بطلان استدلالهم أنّ الله لو شاء لهداهم ، أي لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بأن يغيّر عقولهم فتأتيَ على خلاف ما هُيِّئتْ له لَكَان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصّة بهم أو خارق عادة لأجلهم ، إذ لا يعجزه شيء ، ولكن حكمته قضت أن لا يعمّم عنايته بل يختصّ بها بعض خاصّته ، وأن لا يعدل عن سنّته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحقّ بإرسال الرّسل ونصب الأدلّة والدّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة ، فالمشيئة المقصودة في قوله : فلو شاء لهداكم غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } [ الأنعام : 148 ] وإلاّ لكان ما أُنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المُحَاجَّة ، لأنّ الهداية تساوي عدم الإشراك وعدمَ التحريم ، فلا يصدُق جعل كليهما جواباً للَوْ الامتناعيّة ، فالمشيئة المقصودة في الردّ عليهم هي المشيئة الخفيّة المحجوبة ، وهي مشيئة التّكوين ، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرّضى والمحبّة . هذا وجه تفسير هذه الآية التي كلَّلها من الإيجاز ما شتَّت أفهاماً كثيرة في وجه تفسيرها لا يَخفى بُعدها عن مُطالع التّفاسير والموازنةُ بينها وبين ما هنا .