ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين ، والتشكيك فى صدق تعاليم الإسلام فقال - تعالى - : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها ، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه ، : قالوا لهم وقد وقعوا عن القتال : لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل ، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل .
ويجوز أن تكون اللام فى قوله " لإخوانهم " للتعليل فيكون المعنى : أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد ، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة ، كما هو حالنا الآن ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا .
وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم ، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته ، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد .
ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويدحض قولهم ، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم ، وامتناعكم عن الخروج للقتال ، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم ، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة ، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة ، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال ، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما ، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره .
فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل ، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله ، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم .
وقوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { الذين نَافَقُواْ } .
أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل : والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . . .
وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال .
وجواب الشرط فى قوله { الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } .
والتقدير : إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل ، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله .
قال الآلوسى : والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم ، ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة . غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية .
وأما الثانى : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه ، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم ، وأمرها أهم لديكم " .
وقال ابن القيم : وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد ، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مراد النفاق ، وما يؤول إليه ، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة .
فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .
{ الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وليعلم الله الذين نافقوا ، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . فموضع «الذين » نصب على الإبدال من «الذين نافقوا » ، وقد يجوز أن يكون رفعا على الترجمة عما في قوله : { يَكْتُمُوْنَ } من ذكر «الذين نافقوا » فمعنى الاَية : وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأُحد يوم أُحد ، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم ، { وقَعَدُوا } يعني : وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم من قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله : { لو أَطاعُونَا } يعني : لو أطاعنا من قتل بأُحد من إخواننا وعشائرنا { ما قُتِلُوا } يعني : ما قتلوا هنالك . قال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين : فادرءوا ، يعني : فادفعوا من قول القائل : درأت عن فلان القتل ، بمعنى : دفعت عنه ، أدرؤه درءا ، ومنه قول الشاعر :
تَقولُ وَقدْ دَرأْتُ لهَا وَضِيِني *** أهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِيِني
يقول تعالى ذكره : قل لهم : فادفعوا إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم : لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش ، ما قتلوا هنالك بالسيف ، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتخلفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه¹ الموت ، فإنكم قد قعدتم عن حربهم ، وقد تخلفتم عن جهادهم ، وأنتم لا محالة ميتون . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ } الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية : أي أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا ، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، حرصا على البقاء في الدنيا وفرارا من الموت .
ذكر من قال : الذين قالوا لإخوانهم هذا القول هم الذين قال الله فيهم : { وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ نافَقُوا } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية ، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، قال : هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية . قال ابن جريج عن مجاهد ، قال : قال جابر بن عبد الله : هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا } . . . الاَية ، قال : نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.