مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

قوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فأدرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } .

اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم ، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك ، فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لإخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا ، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل ، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في محل { الذين } وجوه : أحدها : النصب على البدل من { الذين نافقوا } وثانيها : الرفع على البدل من الضمير في { يكتمون } وثالثها : الرفع على خبر الابتداء بتقدير : هم الذين ، ورابعها : أن يكون نصبا على الذم .

المسألة الثانية : قال المفسرون : المراد ( بالذين قالوا ) عبد الله بن أبي وأصحابه ، وقال الأصم : هذا لا يجوز لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد ، وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا } أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد ، قاله لمن خرج إلى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد .

المسألة الثالثة : قالوا لإخوانهم : أي قالوا لأجل إخوانهم ، وقد سبق بيان المراد من هذه الأخوة ، الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدار ، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان ؟ والله أعلم .

المسألة الرابعة : قال الواحدي : الواو في قوله : { وقعدوا } للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ، ثم أجاب الله عن ذلك بقوله : { قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } .

فإن قيل : ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فإن التحرز عن القتل ممكن ، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة ؟

والجواب : هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر ، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره ، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله ، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق ، فيصح الاستدلال . أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهرا من الوجه الذي ذكرتم ، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا ، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله . وقوله : { إن كنتم صادقين } يعني : إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب .