إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

{ الَّذِينَ قَالُوا } مرفوعٌ على أنه بدلٌ من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وقيل : مبتدأ خبرُه ( قل فادرؤوا ) بحذف العائدِ تقديرُه { قُلْ لَهُمْ } الخ ، أو منصوبٌ على الذم أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه ، وقيل : مجرورٌ على أنه بدلٌ من ضمير أفواهِهم أو قلوبِهم كما في قوله : [ الطويل ]

على جودِه لضن بالماء حاتمُ{[133]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأصحابُه { لإخوانهم } أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ { وَقَعَدُوا } حال من ضمير قالوا بتقدير قد ، أي قالوا : وقد قعدوا عن القتال بالانخذال { لَوْ أَطَاعُونَا } أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك { مَا قُتِلُوا } كما لم نُقتلْ ، وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا ، وحملُ القعودِ على ما استصوبه ابنُ أُبيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة ابتداءً ، وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ مع أن ابنَ أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى ، على أن تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً ، بهم فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند المشاورة { قُلْ } تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } جوابٌ لشرط قد حُذف تعويلاً على ما بعده من قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة الجوابِ المذكورِ عليه أي أن كنتم صادقين فيما يُنبئ عنه قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصّ موقتاً بوقت معيّنٍ بدفع سببِه ، فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ بالحال وامتناعِها سواءٌ ، وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم ، والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيلَ إليه ، بل قد يكون القتالُ سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت . رُوي أنه مات يوم قالوا سبعون منافقاً ، وقيل : أريد { إِن كُنتُمْ صادقين } [ آل عمران ، الآية : 168 ] في مضمون الشرطية ، والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى : { فَادْرَؤوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } [ آل عمران ، الآية : 168 ] حينئذ استهزاءٌ بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفّاعين لأسباب الموتِ فادرؤوا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ .


[133]:وهو للفرزدق صدره: على حالة لو أن في القوم حاتما *** ....................... وقد ورد في ديوانه 2/297، ولسان العرب 12/115 (حتم) والمقاصد النحوية 4/186؛ وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 317 وشرح المفصّل 3/69 واللمع ص 174، 266 ويروى في الديوان بروايتين وقد ورد تخريجه سابقا.