اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

جوَّزوا في موضع " الذين " الألقاب الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ :

أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : هم الذين .

ثانيها : أنه بدل من واو " يكتمون " .

ثالثها : أنه مبتدأ ، والخبر قوله : " قل فادْرءوا " ولا بُدَّ من حذف عائدٍ ، تقديره : قُلْ لَهُمْ .

والنصبُ من ثلاثة أوجه - أيضاً - :

أحدها : النصبُ على الذَّم ، أي : أذم الذين قالوا .

ثانيها : أنه بدل من " الذين نافقوا " .

ثالثها : أنه صفة .

والجر من وجهينِ : البدل من الضمير في " بأفواهم " أو من الضمير في " قلوبهم " كقول الفرزدق : [ الطويل ]

عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً *** عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ{[6176]}

بجر " حاتم " على أنه بدل من الهاء في " جوده " - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان : وجوَّزوا في إعراب " الذين " وُجُوهاً :

الرفع ، على النعت ل " الذين نافقوا " أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب . . . فذكره إلى آخره .

قال شهابُ الدينِ : وهذا عجيبٌ منه ؛ لأنَّ " الذين نافقوا " منصوب بقوله : " وليعلم " وهم - في الحقيقة - عطف على " المؤمنين " وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً ، والشيخُ لا يخفَى عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو - وهو الظاهر من كلامه - ولم ينظر في الآية ، اتكالاً على ما رآه منقولاً ، وكثيراً ما يقع الناس فيه ، وأن يُعْتَقَدَ أنّ " الذين " فاعل بقوله : " وليعلم " أي : فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين ، وليعلم المنافقون ، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة .

قوله : " وقعدوا " يجوز في هذه الجملة وجهانِ :

أحدهما : أن تكون حالية من فاعل " قالوا " و " قد " مرادة أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالاً بالواو و " قد " أو بأحدهما ، أو بدونهما ، ثابتٌ من لسان العربِ .

الثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين " قالوا " ومعمولها ، وهو " لو أطاعونا " .

فصل في المراد ب " الذين "

قال المفسّرون المراد ب " الذين " عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ . وقال الأصَم : هذا لا يجوزُ ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهادِ يوم أحُدٍ ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف ، لأنه قال : { الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } أي في القعود " ما قتلوا " فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك ؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد ، صارفاً لهم عن الجهاد .

وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله : " وقعدوا " القعود عن القتالِ ، لا عن الخروج إلى القتال ؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ ، ولم يُقَاتِل ، بل هَرَبَ بمن معه ، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام .

وقوله : { لإِخْوَانِهِمْ } أي : لأجل إخوانهم - وقد تقدم : هل المرادُ - من هذه الأخوة - الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ ، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان ؟

قوله : { قُلْ فَادْرَءُوا } ادفعوا { عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .

فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن ، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته ؟

فالجوابُ : أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا : إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه ، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق ، فيصح الاستدلالُ ، أما إذا قلنا : بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً .

وقوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب .


[6176]:تقدم برقم 641.