136- المشركون الذين يعبدون الأوثان في أوهام مستمرة ، فهم يجعلون مما خلق الله تعالى وأنشأه من الزرع ومن الإبل والبقر والغنم ، جزءاً لله تعالى ينفقونه على الضيفان والمحتاجين ، وجزءاً آخر ينفقونه على خدمة الأوثان التي جعلوها شركاء لله تعالى بزعمهم ، فما يجعلونه للأوثان يصل إلى أوثانهم فينفقونه عليها ، وما يجعلونه لله بزعمهم لا يصل شيء منه إلى الضيفان والفقراء ، وما أسوأ حكمهم الظالم ، لأنهم جعلوا الأوثان نظراء لخالق الحرث والنسل ، ولأنهم لا ينفقون ما جعلوه لله في مصارفه .
ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن أوهام المشركين وجهالاتهم التى تتعلق بمآكلهم ، ومشاربهم ، ونذورهم ، وذبائحهم ، وعاداتهم البالية ، وتقاليدهم الموروثة ، فتناقشهم فى كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة ، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وترشدهم إلى الطريق السليم الذى من الواجب عليهم أن يسلكوه . استمع إلى سورة الأنعام وهى تحكى كل ذلك فى بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول : { وَجَعَلُواْ للَّهِ . . . . } .
لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التى كانت متفشية فى المجتمع الجاهلى ، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيباً لله ونصيباً لأوثانهم ، فيشركونها فى أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان ، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها .
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } .
" ذرأ " بمعنى خلق يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا أى : خلقهم وأوجدهم وقيل . الذرأ الخلق على وجه الاختراع .
أى : وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله - تعالى - من الزروع والأنعام نصيباً لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم ، وجعلوا لأصنامهم نصيباً آخر يقدمونه لسدنتها ، وإنما لم يذكر النصيب الذى جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله : { فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } .
أى : فقالوا فى القسم الأول : هذا لله نتقرب به إليه .
وقالوا فى الثانى : وهذا لشركائنا نتوسل به إليها .
وقوله - تعالى - فى القسم الأول { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } أى : بتقولهم ووضعهم الذى لا علم لهم به ولا هدى .
قال الجمل : ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب ، وإنما نسبوا للكذب فى هذه المقالة مع أن كل شىء لله ، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم .
وقال أبو السعود : وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه فى الحقيقة جعل لله - تعالى - غير مستتبع لشىء من الثواب كالتطوعات التى يبتغى بها وجه الله - لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثانى ، ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعلمون بمقتضاه الذى هو اختصاصه - تعالى - به .
ثم فصل - سبحانه - ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ } .
أى : فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذى يتقرب به إلى شركائهم ، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شىء ، وما كان منها من القسم الذى يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة ، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها .
فهم يجعلون قسم الأصنام لسدنتها وأتباعها وحدهم ، بينما القسم الذى جعلوه لله بزعمهم ينتقصونه ويضعون الكثير منه فى غير موضعه ، ويقولون : إن الله غنى وإن آلهتنا محتاجة .
وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى : ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شىء ، على خالق قادر على كل شىء ، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا فى القسمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هََذَا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهََذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىَ اللّهِ وَمَا كَانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىَ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام لربهم ممّا ذَرَأَ خالقهم ، يعني : مما خلق من الحرث والأنعام ، يقال منه : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْأً وَذَرْوا : إذا خلقهم . نصيبا : يعني قسما وجزءا .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان ، فقال بعضهم : كان ذلك جزءا من حروثهم وأنعامهم يقرّرونه لهذا ، وجزءا لهذا . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة عن ابن عباس : فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى الله . . . الاَية ، قال : كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَما جعلوا منها لله سهما وسهما لاَلهتهم ، وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لاَلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردّوه إلى الذي جعلوه لاَلهتهم وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لاَلهتم أقرّوه ولم يردّوه ، فذلك قوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا قال : جعلوا لله من ثمراتهم ومالهم نصيبا وللشيطان والأوثان نصيبا ، فإن سقط من ثمرة ما جعلوا لله في نصيب الشيطان تركوه ، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقطوه وحفظوه وردّوه إلى نصيب الشيطان . وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه ، فهذا ما جعلوا من الحروث وسقي الماء . وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام ، فهو قول الله : ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهَ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فَقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ . . . الاَية ، وذلك أن أعداء الله كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منها جزءا وللوثَن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه ، فإن سقط منه شيء فيما سمى لله ردّوه إلى ما جعلوا للوثن ، وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله ، جعلوا ذلك للوثن ، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله فاختلط بالذي جعلوا للوثن ، قالوا : هذا فقير ، ولم يردّوه إلى ما جعلوا لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن . وكانوا يُحَرّمون من أنعامهم : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرّمونه لله ، فقال الله في ذلك : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا . . . الاَية .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا قال : يسمون لله جزءا من الحرث ولشركائهم وأوثانهم جزءا . فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه ، وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردّوه وقالوا : الله عن هذا غنيّ . والأنعام : السائبة والبحيرة التي سَمّوْا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا . . . الاَية ، عمد ناس من أهل الضلالة ، فجزّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءا لله وجزءا لشركائهم . وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزّءوا لشركائهم خلوه ، فإذا خالط شيء مما جزّءوا لشركائهم فيما جزّءوا لله ردّوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السّنة استعانوا بما جزّءوا لله وأقرّوا ما جزءوا لشركائهم ، قال الله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا قال : كانوا يجزئون من أموالهم شيئا ، فيقولون : هذا لله ، وهذا للأصنام التي يعبدون . فإذا ذهب مما جعلوا لشركائهم فخالط ما جعلوا لله ردّوه ، وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئا مما جعلوه لشركائهم تركوه . وإن أصابتهم سنة ، أكلوا ما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم ، فقال الله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَجلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْث والأنْعامِ نَصِيبا . . . إلى : يَحْكُمُونَ قال : كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله ، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله ، ويجعلون لاَلتهم مثل ذلك ، فما خرج للاَلهة أنفقوه عليها ، وما خرج لله تصدّقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم وكثر الذي لله ، قالوا : ليس بدّ لاَلهتنا من نفقة وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتم وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لاَلهتهم ، قالوا : لو شاء أزكى الذي له فلا يردّون عليه شيئا مما للاَلهة . قال الله : لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذًا ما حكموا أن يأخذوا مني ولا يعطوني . فذلك حين يقول : ساءَ ما يَحْكُمُونَ . . .
وقال آخرون : النصيب الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسموا الاَلهة ، وكانوا ما ذبحوه للاَلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا . . . حتى بلغ : وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ قال : كلّ شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الاَلهة ، وما كان للاَلهة لم يذكروا اسم الله معه . وقرأ الاَية حتى بلغ : ساءَ ما يَحْكُمُونَ .
وأولى التأويلين بالاَية ، ما قال ابن عباس ، ومن قال بمثل قوله في ذلك لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسما مقدّرا ، فقالوا : هذا لله ، وجعلوا مثله لشركائهم ، وهم أوثانهم بإجماع من أهل التأويل عليه ، فقالوا : هذا لشركائنا وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله ، بمعنى : لا يصل إلى نصيب الله ، وما كان لله وصل إلى نصيب شركائهم . فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية ، كان أعيان ما أخبر الله عنه أنهم لم يصل جائزا أن تكون قد وصلت ، وما أخبر عنه أنه قد وصل لم يصل ، وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام لأن الذبيحتين تذبح إحداهما لله والأخرى للاَلهة ، جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت وخلطوهما ، إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحا للاَلهة دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض .
وأما قوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ فإنه خبر من الله جلّ ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جلّ ثناؤه : وقد أساءوا في حكمهم إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبر عن جهلهم وضلالتهم وذهابهم عن سبيل الحقّ بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ، حتى فضلوه في إقسامهم عند أنفسهم بالقسم عليه .