غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ} (19)

1

قال أهل النكت : إن موسى لما قال { ولي فيها مآرب أخرى } أراد الله سبحانه أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و { قال ألقها يا موسى } وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فأمر بتركهما تنبيهاً على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان . وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا ، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه ؟ ! قال الكلبي : الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يديه فذاك قولنا ، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده . ويمكن أن يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا . قوله { فإذا هي حية تسعى } [ الأعراف : 107 ] وفي موضع آخر { فإذا هي ثعبان } وفي آخر { كأنها جان } [ النمل : 10 ] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم . وأما الثعبان - وهو العظيم من الحيات - والجان - وهو الدقيق منها - فبينهما تنافٍ في الظاهر لا في التحقيق ، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان ، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعباناً آخر الأمر . أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة .

/خ19

وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه ، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات . وأيضاً لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه ؛ فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب ، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح ؟ ! وقد مر في " الأعراف " أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر ، ولو أنه بلغ حينئذٍ مقام { ففروا إلى الله } [ الذاريات : 50 ] لم يفر عن شيء . أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده .

/خ36