محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثامن

ويشتمل على تفسير سورتي : الأنفال والتوبة

سورة الأنفال {[1]}

1 { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين }

{ يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين }

روى البخاري{[4298]} عن ابن عباس " أن سورة الأنفال نزلت في بدر " .

وروى الإمام أحمد{[4299]} عن عبادة بن الصامت قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدرا فالتقى الناس ، فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحذقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا . . نحن أحذقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به- فنزلت : { يسألونك عن الأنفال . . . . } الآية – فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق{[4300]} من المسلمين " .

/ وهذا الحديث رواه الترمذي{[4301]} أيضا وحسنه ، ورواه ابن حيان في ( صحيحه ) وصححه الحاكم ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال : " فينا أصحاب بدر ، نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من بين أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء " .

وروى أبو داود{[4302]} والنسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صنع كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم ، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، لو انكشفتم لثبتم إلينا ، فتنازعوا فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال . . . } الآية – وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعا ، وأن الآية نزلت لفصله .

والأنفال : هي المغانم ، جمع ( نفل ) محركة ، وهو الغنيمة . أي كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب ، قال ابن تيمية : سميت بذلك ، لأنها زيادة في أموال المسلمين ، أي لأن النفل يطلق على الزيادة .

كما في ( التاج ) ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة .

وقوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } قال المهايمي : أي ليست هي في مقابلة الجهاد ، وإنما مقابله الأجر الأخروي ، وهذه زائدة عليه ، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكا خالصا لله والرسول .

والرسول خليفة يعطيها على ما أراه الله من يشاء ، ولما أطلق له صلى الله عليه وسلم الحكم فيها ، قسمها بينهم بالسوية ووهب من استوهبه . فروى الإمام أحمد{[4303]} عن سعد بن أبي وقاص قال : " لما كان يوم بدر قتل / أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الذهب فاطرحه في القبض . قال فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب فخذ سلبك " . وروى الإمام أحمد{[4304]} والترمذي – وصححه- عن سعد بن مالك قال : " قلت : يا رسول الله  ! قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي ، قال : إذا رجل يدعوني من ورائي . قال قلت : قد أنزل الله في شيئا ، قال : كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك ، قال : وأنزل الله هذه الآية { يسألونك عن الأنفال . . . } الآية " .

تنبيهات

الأول – ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى .

قال ابن كثير : فيه نظر . ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شَارٍفَيْه اللذين حصلا له ، من الخمس ، يوم بدر ، فالصواب أنها مجملة محكمة ، بين مصارفها في آية الخمس .

الثاني – روي عن عطاء أنه فسر { الأنفال } بما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمة أو متاع . قال : فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء .

قال ابن كثير : وهذا يقتضي أنه فسر { الأنفال } بالفيء ، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال .

/ قلت : صدق ( النفل ) عليه ، لا شك فيه ، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه ، فلا يساعده سبب نزولها المار ذكره ، لا سيما قوله : { وأصلحوا ذات بينكم } المشير إلى التنازع المتقدم .

ثم قال ابن كثير : واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم ، أي ما يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم ، والكلام الذي قلته قبل ، يجري هنا أيضا .

ونقل الرازي عن القاضي ، أن كل هذه الوجوه تحتمله الآية ، قال : وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض ، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين ، قضى به . وإلا فالكل محتمل وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة ، فإنه لا تناقض بينها . أي لصدق ( النَّفَل ) عليها .

الثالث : وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر ، لمن الحكم فيها للمهاجرين أم للأنصار ، أم لهم جميعا ؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول ، وليس لأحد فيها حكم ، وتأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر ، وزاد عليه اعتماده له ، بتطويل ممل ، ولا أدري من أين سرت لهم هذه الرواية . فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم ، بل ولا أصحاب السير ، كابن إسحاق وابن هشام . وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم ، ويتنازعوا ولايتها ، والرسول بين أظهرهم ؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم ؟ سبحانك هذا يهتان عظيم ولكن هو الرأي ( قاتله الله ) ونبذ كتب السنة ، والتقليد البحث ، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء ، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم ، حيث يكون مطواعا لآراء غيره ، منقادا لها مصدقا ما ينطق به فمه ، غثًّا كان أو سمينا ، اللهم نور بصيرتنا بفضلك .

وقوله تعالى : { فاتقوا الله } أي في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله .

وقوله تعالى : { وأصلحوا ذات بينكم } أي أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق .

/ وقوله تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله } أي في قسمه بينكم ، على ما أراه الله تعالى ، وقوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } متعلق بالأوامر الثلاثة .

قال الزمخشري : جعل التقوى وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله ، من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ، فمعنى قوله : { إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[4298]:أخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير، 8 - تفسير الأنفال باب قوله : { يسألونك عن الأنفال } حديث رقم 1869.
[4299]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 323 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[4300]:قال ابن الأثير : أي قسمها في قدر فواق نافة، وهو ما بين الحلبتين من الراحة وتضم فاؤه وتفتح.
[4301]:لم أجد هذا الحديث في سنن الترمذي.
[4302]:أخرجه أبو داود في 15 - كتاب الجهاد 133- باب في النفل حديث رقمم 2737.
[4303]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 180 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 1556 (طبعة المعارف).
[4304]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 178 من الجزء الأول (طبعة الحلبي والحديث رقم 1538 (طبعة المعارف).