محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (9)

{ الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد } أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة ، أصحاب الأخدود وغيرهم شاهد شهودا لا يخفى عليه منه مثقال ذرة ، وهو مجازيهم عليه وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعار بمناط إيمانهم فإن كونه تعالى قاهرا ومنعما له ذلك الملك الباهر وهو عليهم بأفعال عبيده مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو معروف في كتب المعاني .

تنبيه :

روى ابن جرير{[7416]} عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال " هم ناس من بني إسرائيل حدوا أخدودا في الأرض ثم أوقدوا فيه نارا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء فعرضوا عليها " وهكذا قال الضحاك : هم من بني إسرائيل أخذوا رجالا ونساء فخدوا لهم أخدودا ثم أوقدوا فيها النيران فأقاموا المؤمنين عليها فقالوا تكفرون أو نقذفكم في النار .

وقال مجاهد كان الأخدود شقوقا بنجران كانوا يعذبون فيها الناس وتفصيل النبأ على ما في كتاب ( الكنز الثمين ) إن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العرية عن شوائب الإلحاد لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرا من قبله نصرانيا مثله وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر بغضا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم فأقاموا رجلا يهوديا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ وجاء لمحاربة مدينة نجران واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة ، ولما دخلها قتل عددا عظيما من سكانها رجالا ونساء ، كانت عدتهم فيما يقال ثلاثمائة وأربعين شهيدا ، وأتى بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود وكان هرما لا يقوى على المشي فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام فأمر بسفك دمه فقتل وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران ثم ألقت امرأة نفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى والفرح بالشهادة ما أضحوا مثالا وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الخبر أراثا ورفقته ويؤرخونها بعام ( 524 ) من التاريخ المسيحي وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها والله أعلم .


[7416]:انظر الصفحة رقم 132 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).