وقوله تعالى : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } خطاب عام للمكلفين كما في قوله تعالى أولاً { ليبلوكم } [ الملك : 2 ] عطف على مقدر قال في «الكشف » أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني جواباً عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملاً ومن خرج ممحصاً عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ } [ الملك : 12 ] الخ فأثبت لهم كمال العلم { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] وكمال التقوى لقوله تعالى بالغيب وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى { أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] أي ليبلوكم أيكم المتقي تخصيصاً لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون واعتقدوا استواء إسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى : { إِنَّ الذين } الخ استطراداً عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وأسروا أو اجهروا على سبيل الالتفات إلى { أصحاب السعير } [ الملك : 11 ] لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفاً على قوله تعالى { وللذين كفروا } [ الملك : 6 ] كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وأسروا الخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في شمول علمه عز وجل المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالباً فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقوله تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفي كأنه قيل أنه عز وجل مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلاً فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفي عليه سر من أسرارها .
{ 13 - 14 } { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
هذا إخبار من الله بسعة علمه ، وشمول لطفه فقال : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } أي : كلها سواء لديه ، لا يخفى عليه منها خافية ، ف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها من النيات ، والإرادات ، فكيف بالأقوال والأفعال ، التي تسمع وترى ؟ !
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وأسروا قولكم أو اجهروا به}: وأخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه.
"إنّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ ": إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يُتَكَلّم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفى ذلك أو أعلن، لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور، فغيرها أحرى أن لا يخفي عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور}: إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور، بما يضمرون فيها، ويودعون، ويكتمون، وبما يخبرون عما أودعوا، ويظهرون. والصدر هو ساحة القلب، سمي صدرا، لأن الآراء تصدر عنها، فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. خوَّفَهم بِعلْمِه، ونَدَبَهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السِّرَّ وأخفى، ويسمع الجَهْرَ والنجوى ....
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار. ومعناه: لِيَستَوِ عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما، ثم أنه علله ب (إنه عليم بذات الصدور) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وأسروا قولكم}: خطاب لجميع الخلق...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك مؤكداً لأجل ما للناس من استبعاد ذلك بقوله: {إنه} أي ربكم {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي بحقيقتها وكنهها، وحالها وجبلتها، وما يحدث عنها، سواء كانت قد تخيلته ولم تعبر عنه، أو كان مما لم تتخيله بعد، بدليل ما يخبر به سبحانه وتعالى عنهم مما وقع وهم يخفونه، أو لم يقع بعد ثم يقع كما أخبر به سبحانه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وتقديمُ السرِّ على الجهرِ، للإيذانِ بافتضاحِهِم، ووقوعِ ما يحذرونَهُ من أولِ الأمرِ، والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِهِ المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ، كأنَّ علمَهُ تعالَى بما يُسرُّونَهُ أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ، مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ...، أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ، إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ، إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ، يتعلقُ بهِ الأسرارُ غالباً، فتعلقُ علمه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقِهِ بحالتِهِ الثانيةِ.
وقولُهُ تعالَى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلَهُ، وتقريرٌ لهُ. وفي صيغةِ الفعيلِ، وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ، ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها، من الجزالةِ ما لا غايةَ وراءَهُ، كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهِم الخفيةِ المستكنةِ في صدورِهِمْ، بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً، فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ بذاتِ الصُّدورِ، القلوبُ التي في الصدرِ، والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِهَا، فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها، في تقرير علم الله بالسر والجهر، وهو يتحدى البشر. وهو الذي خلق نفوسهم، ويعلم مداخلها ومكامنها، التي أودعها إياها: وأسروا قولكم أو اجهروا به، أنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟. أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم الله سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر. (إنه عليم بذات الصدور) التي لم تفارق الصدور! عليم بها، فهو الذي خلقها في الصدور، كما خلق الصدور!...