إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (13)

{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالَى ، كما في قولِه : { سَوَاء منْكُمْ منْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } [ سورة الرعد ، الآية 10 ] قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما : نزلتْ في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ ، فقال بعضُهُم لبعضٍ : أسرُّوا قولَكُم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ ، فقيلَ لهم : أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ ، وتقديمُ السرِّ على الجهرِ ، للإيذانِ بافتضاحِهِم ، ووقوعِ ما يحذرونَهُ من أولِ الأمرِ ، والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِهِ المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ ، كأنَّ علمَهُ تعالَى بما يُسرُّونَهُ أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ ، مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ ، فإنَّ علمَهُ تعالَى بمعلوماتِهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صورِهَا ، بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِهِ علمٌ بالنسبةِ إليهِ تعالَى ، أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ ، إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ ، إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ ، يتعلقُ بهِ الأسرارُ غالباً ، فتعلقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقِهِ بحالتِهِ الثانيةِ . وقولُهُ تعالَى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليلٌ لما قبلَهُ ، وتقريرٌ لهُ . وفي صيغةِ الفعيلِ ، وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ، ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها ، من الجزالةِ ما لا غايةَ وراءَهُ ، كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهِم الخفيةِ المستكنةِ في صدورِهِمْ ، بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً ، فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ بذاتِ الصُّدورِ ، القلوبُ التي في الصدرِ ، والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِهَا ، فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا .