{ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران ، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه .
{ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح .
فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
{ كبائر الإثم } ذكرنا الكبائر في النساء وقيل : كبائر الإثم : هو الشرك ، والفواحش : هي الزنا واللفظ أعم من ذلك .
{ والذين استجابوا لربهم } قيل : يعني : الأنصار لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، ويظهر لي أن هذه الآية : إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولا بصفات أبي بكر الصديق ، ثم صفات عمر بن الخطاب ثم صفات عثمان بن عفان ثم صفات علي بن أبي طالب ، فكونه جمع هذه الصفات ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك .
فأما صفات أبي بكر فقوله : { الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [ النحل : 99 ] ، وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفا بها لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحهم " وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة الإيمان وأبو بكر بابها " وقال أبو بكر : " لو كشف الغطاء لما ازددت إلا يقينا " والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان .
أما صفات عمر فقوله : { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة التقوى وعمر بابها " وقوله : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } [ الشورى : 37 ] ، وقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] نزلت في عمر .
وأما صفات عثمان فقوله : " والذين استجابوا لربهم " لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان تبعه وبادر إلى الإسلام وقوله : { وأقاموا الصلاة } لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } [ الزمر : 9 ] الآية .
وروي أنه كان يحيي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن كله ، وقوله : { وأمرهم شورى بينهم } لأن عثمان ولي الخلافة بالشورى ، وقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] ، لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ويكفيك أنه جهز جيش العسرة .
ولما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال ، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على { الذين } : { والذين يجتبنون } أي يكلفون أنفسهم أن يحابوا { كبائر الإثم } أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس ، فيوجب عقاباً لها مع الجسم ، وعطف على { كبائر } قوله : { والفواحش } وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه ، وقرأ حمزة والكسائي : كبير ، وهو للجنس ، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد . ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصارع قال منبهاً على عظمته معبراً بأداة التحقق دلالة على أنه لا بد منه توطيناً للنفس عليه معلقاً بفعل الغفر : { وإذا } وأكد بقوله : { ما } وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال : { غضبوا } أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة ، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال : { هم يغفرون } أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر ، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي ، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه ، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله ، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.