تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (23)

بعد أن عدّد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى ، وفي خلْق الماء لهم لينتفعوا به ، وإنشاء النبات وما فيه من الثمرات ، وفي خلق الحيوان وما فيه من المنافع للانسان ، ذكَر هنا أن كثيراً من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا ، فكفروا بهذه النعم ، وجهلوا قدر المنعم بها ، وعبدوا غيره ، وكذّبوا رسلَه الذين أُرسِلوا اليهم . . . فأهلكهم الله بعذاب من عنده . وفي هذا إنذارٌ وتخويف لكل من ينحرف ويكذّب ويعبد غير الله .

وقد مرّت قصةُ نوح في سورة هود بتفصيلٍ أوسعَ في الآيات 25 الى 49 ومر شرحها فلا داعي لتكرار ذلك ، وإنما أذكر موجَزا لبحثِ قيّم أورده الدكتور موريس بوكاي في كتابه « التوراة والإنجيل والقرآن والعلم » إذ يقول ما ملخصه :

« الاصحاحات 6 ، 7 ، 8 ، من سفر التكوين مكرسةٌ لرواية الطوفان ، ويشكل أدقّ روايتين غير موضوعيتين جنبا الى جنب . . . . والحقيقة أن في هذه الاصحاحات الثلاثة تناقضاتٍ صارخة . وتقول الرواية : إن الارض تغطّت حتى قمم الجبال وأعلى منها بالماء ، وتدمَّرت الحياة كلها ، وبعد سنةٍ خرجَ نوح من السفينة التي رست على جبلِ أراراط بعد الانحسار .

وتقول الرواية اليهودية إن مدة الطوفان أربعون يوما ، وتقول الرواية الكهنوتية إن المدة مئةً وخمسون يوماً .

ومعنى هذا أن البشريَّة قد أعادت تكوينها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم . . . .

إن المعطيات التاريخية تثبت استحالَة اتفاق هذه الرواية مع المعارفِ الحديثة . فإذا كان الطوفان قد حدث قبل ثلاثة قرون من زمن إبراهيم ، كما يوحي بذلك نصُّ سِفر التكوين في الأنساب ، فإن الطوفان يكون قد وقع في القرن 21 أو 22 قبل الميلاد .

وفي العصر الحديث لا يمكن تصديق هذا التاريخ ، إذ من المعلوم بأن حضاراتٍ متقدمةً بقيت آثارها خالدة قد نمت في هذه الفترة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر . فكيف يكون الطوفان قد عمّ الأرضَ جميعها ! ! فالنصوص التوراتية إذنْ في تعارضٍ صريح مع المعارف الحديث .

وإن وجود روايتين لنفس الحدَث ، هذا بالاضافة الى التضارب الذي تحويانه ، يوضح بصورةٍ قطعية أن ايدي البشَر قد حوّرت الكتب التوراتية .

أما القرآن الكريم فإن رواية الطوفان فيه كما يبسطها تختلف تماماً عن رواية التوراة ، ولا تثير أيّ نقدٍ من وجهة النظر التاريخية . وذلك لأسباب بسيطة جداً ، فالقرآن لا يحدد الطوفان بزمان ، ولا يذكر كارثةً حلّت بالأرض قاطبة ، ولكنه يذكر عقاباً سُلِّط على قومِ نوح دون سواهم ، وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن القرأن أُنزل بوحي من عند الله » .