لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (23)

كَرَّرَ قصةَ نوح لِمَا فيها من عظيم الآيات من طولِ مقامه في قومه ، وشدةِ مقاساة البلاء منهم ، وتمام صبره على ما استقبله في طول عمره ، ثم إهلاك الله جميع مَنْ أَصَرَّ على كفرانه ، ثم إهلاك الله جميع مَنْ أَصَرّ على كفرانه ، ثم لم يغادِرْ منهم أحداً ، ولم يبال - سبحانه - بأنْ أهلك جملتهم . ولقد ذكر في القصص أن امرأةً من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولودٌ ، فَحَمَلَتْه وقامت حالمةً له ترفعه عن الطوفان ، فلمَّا بلغ الماءُ إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها - قدْرَ ما أمكنها - إبقاءً على وَلَدِها ، وإشفاقاً عليه من الهلاك ، إلى أن غَلَبَها الماءُ وتَلِفَتْ وولدها . فأوحى الله إلى نوح - عليه السلام- لو أني كنتُ أَرْحَمُ واحداً منهم لَرَحِمْتُ تلك المرأة وولدها .

وفي الخبر أن نوحاً كان اسمه يشكر ، ولكثرة ما كان يبكي أوحى الله إليه : يا نوح . . . إلى كم تنوح ؟ فسمَّاه نوحاً . ويقال إن ذنبَه أنه مرّ يوماً بكلبٍ فقال : ما أوحشه !

فأوحى الله إليه : اخلق أنت أَحْسَنَ من هذا ! فكان يبكي معتذراً عن قالته تلك . وكان قومُه يلاحظونه بعين الجنون ، وما زاد لهم دعوةً إلا ازدادوا على إجابته نبوةً ، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوةً على قسوة .

ولما عمل السفينة ظهر الطوفان ، وأدخل في السفينة أَهْلَه ، تعرْض له إبليسُ - كما جاء في القصة - وقال : احْمِلْني معك في السفينة ، فأبى نوح وقال : يا شقيُّ . . تطمع في حملي إياك وأنت رأسُ الكفَرَةِ ؟ !

فقال إبليسُ : أَمَا عَلِمْتُ - يا نوحُ - أَنَّ الله أنْظَرني إلى يوم القيامة ، وليس ينجو اليومَ أحدٌ إلاّ في هذه السفينة ؟

فأوحى الله إلى نوح أَن احمله فكان إبليسُ مع نوح في السفينة ، ولم يكن لابنه معه مكانٌ في السفينة . وفي هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول لأنه إن كان المعنى في أن ابنه لم يكن معه له مكان لكُفْرِه فبإبليس يُشكل . . . ولكنها أحكامٌ غيرُ معلولة ، وجاز له - سبحانه - أن يفعل ما يريد : يَصِلُ مَنْ شاء وَيَرُدُّ مَنْ شاء .