مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (23)

قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين } .

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا .

القصة الأولى : قصة نوح عليه السلام .

قال قوم : إن نوحا كان اسمه يشكر ، ثم سمي نوحا لوجوه . أحدها : لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك ، فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك . وثانيها : لمراجعة ربه في شأن ابنه . وثالثها : أنه مر بكلب مجذوم ، فقال له إخسا يا قبيح ، فعوتب على ذلك ، فقال الله له : أعبتني إذ خلقته ، أم عبت الكلب . وهذه الوجوه مشكلة لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى .

أما قوله : { اعبدوا الله } فالمعنى أنه سبحانه أرسله بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده ، ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولا ، لأن عبادة من لا يكون معلوما غير جائزة وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة .

أما قوله : { ما لكم من إله غيره } فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه . ومن حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما ، فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع ؟ وقرئ غيره بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ ، ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله : { أفلا تتقون } لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه .