قوله تعالى : { إلا الذين آمنوا } استثناء من الإنسان ؛ إذ هو بمعنى الناس على الصحيح . { وعملوا الصالحات } أي أدوا الفرائض المفترضة عليهم ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبي بن كعب : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { والعصر } ما تفسيرها يا نبي الله ؟ قال : { والعصر } " قسم من الله ، أقسم ربكم بآخر النهار " { إن الإنسان لفي خسر } : أبو جهل { إلا الذين آمنوا } : أبو بكر ، { وعملوا الصالحات } عمر . { وتواصوا بالحق } عثمان { وتواصلوا بالصبر } علي . رضي الله عنهم أجمعين . وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه . { وتواصوا } أي تحابوا ، أوصى بعضهم بعضا وحث بعضهم بعضا . { بالحق } أي بالتوحيد ، كذا روى الضحاك عن ابن عباس . قال قتادة : { بالحق } أي القرآن . وقال السدي : الحق هنا هو الله عز وجل . { وتواصوا بالصبر } على طاعة الله عز وجل ، والصبر عن معاصيه . وقد تقدم{[16359]} . والله أعلم .
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل ؛ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم ، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص ، استثناهم سبحانه وتعالى ؛ لأنهم قليل جداً بالنسبة إلى أهل الخسر ، فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر ، مخلدة إلى البطالة واللهو ، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح { إلا الذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات ، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر .
ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً ، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية ، قال تعالى : { وعملوا } أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان { الصالحات } أي هذا الجنس ، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع ، فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين ، فاشتروا الآخرة بالدنيا ، فلم يلههم التكاثر ، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية ، فلم يلقهم شيء من الخسر .
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره ، وحينئذ يكون وارثاً ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل ، وكان الدين لا يقوم ، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشىء عن نور القلب ، ولا يتأتى ذلك إلا بالاجتماع ، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه : { وتواصوا } أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال : { بالحق } أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك ، فكانوا محسنين ، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور .
ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان ، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من أهل العدوان ، وهم الأغلب في كل زمان ، قال تعالى : { وتواصوا } لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ { بالصبر } أي الناشىء عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق ، وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام ، فكانوا مكملين للقوة العملية ، حافظين لما قبلها من العلمية ، وذلك هو حكمة العبادات ، فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه ، وهي هنا أمران : خارج عن العامل وهو الجنة ، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى ، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعمال اللين بغاية الجهد ، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه ، وقسرها على أفعال الطاعة ، وقهرها على لزوم السنة والجماعة ، حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة ، فقد عانق آخرها أولها ، وواصل مفصلها موصلها ، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في السنة الرابعة عشرة من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق ، وهي سنة الهجرة التي تم فيها بدره ، وعم نوره وقدره ، وجم عزه ونصره ، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة ، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب ، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ممن وافقه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب ، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين ، وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والله لأخرجن ، ولو لم يخرج معي أحد " ، وأنزل الله فيها{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا }[ آل عمران : 173 ] الآيات ، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابهم : " الآن نغزوهم ولا يغزوننا " ، فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع ، وقد كانت فيها غزوة تبوك ، وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها عن إقبال الوفود ، بفخامة العز والجدود ، وتواتر السعود ، بلطف الرحيم الودود ، وبذلك كان نور الوجود ، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود .
قوله : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } استثناء من جنس الإنسان وهم الناس ، فقد استثنى بذلك من الخاسرين الهلكى { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهم الموقنون بوحدانية الله ، المصدقون بنبوة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأدوا ما عليهم من فرائض ، فالتزموا شرع الله وأحكام دينه غير مفرطين ولا غافلين .
قوله : { وتواصوا بالحق } يعني حضّ بعضهم بعضا ، وأوصى بعضهم بعضا بالحق . وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته ، واتباع النور الذي أنزله على رسوله { وتواصوا بالصبر } يعني أوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي وعلى فعل الطاعات والواجبات وما يتقربون به إلى الله{[4856]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.