الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (4)

قوله تعالى : " أم حسب الذين يعملون السيئات " أي الشرك . " أن يسبقونا " أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون . قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل . " ساء ما يحكمون " أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء و " ما " في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وهذا قول الزجاج وقدرها ابن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك : أحدهما : أن يكون موضع " ما يحكمون " بمنزلة شيء واحد كما تقول : أعجبني ما صنعت ، أي صنيعك ، ف " ما " والفعل مصدر في موضع رفع التقدير ، ساء حكمهم والتقدير الآخر أن تكون " ما " لا موضع لها من الإعراب ، وقد قامت مقام الاسم لساء وكذلك نعم وبئس . قال أبو الحسن بن كيسان : وأنا أختار أن أجعل ل " ما " موضعا في كل ما أقدر عليه ، نحو قوله عز وجل : " فبما رحمة من الله " [ آل عمران : 159 ] وكذا " فبما نقضهم " [ المائدة : 13 ] وكذا " أيما الأجلين قضيت " [ القصص : 28 ] " ما " في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها ، وكذا " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة " [ البقرة : 26 ] " ما " في موضع نصب و " بعوضة " تابع لها .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (4)

ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا ، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة ، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام : أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أنم ذلك لا يكون في الأخرى ، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عباده مجاناً ، فيكون خلقنا لهم عبثاُ لا حكمة فيه ، بل الحكمة في تركه ، وهذا الثاني هو معنى قوله منكراً أم حسب ، أو يكون المعنى أنه لما انكر على الناس عموماً ظنهم الإهمال ، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم ، فكان الإنكار عليهم أشد ، فعادل الهمزة بأم في سياق الإنكار كما عادلها بها في قوله :

( أتخذتم عند الله عهداً }[ البقرة : 80 ] الآية ، فقال : { أم حسب } أي ظن ظناً يمشي له ويستمر عليه ، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه { الذين يعملون السيئات } أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل - منها بالنهي عنها ، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله : { أن يسبقونا } أي يفوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقدر عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له ، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم ، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغرة داخرين ، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساؤوا إليه منهم ، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم .

ولما أنكر هذا ، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيماً لإنكاره فقال : { ساء ما يحكمون* } أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلاً لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضاً ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم .