الأولى : قوله تعالى : " وشروه " يقال : شريت بمعنى اشتريت ، وشريت بمعنى بعت لغة ، قال الشاعر{[9012]} :
وشَرَيْتُ بُرْداً ليَتَنِي*** من بَعْدِ بُرْدٍ كنتُ هَامَهُ
فلما شَرَاهَا فاضَتِ العينُ عَبْرَةً *** وفي الصدر حَزَّازٌ من اللوم حَامِزُ{[9013]}
" بثمن بخس " أي نقص ، وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم ، أي باعوه بثمن مبخوس ، أي منقوص . ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه . وقيل : إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة . وقيل : لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر ، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا : هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم . وقال قتادة : " بخس " ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء : " بخس " حرام . وقال ابن العربي : ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة ؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ، وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ، أو قالوا{[9014]} لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله . قلت : قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه{[9015]} كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك ، فدل على صحة ما قاله السدي وغيره ؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها ، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه . وقال عكرمة والشعبي : قليل . وقال ابن حيان : زيف . وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وكانوا عشرة ، وقاله قتادة والسدي . وقال أبو العالية ومقاتل : اثنين وعشرين درهما ، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين ، وقاله مجاهد . وقال عكرمة : أربعين درهما ، وما روي عن الصحابة أولى . و " بخس " من نعت " ثمن " .
قوله تعالى : " دراهم معدودة " على البدل والتفسير له . ويقال : دراهيم على أنه جمع درهام ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء ، وليس هذا مثل مد المقصور ؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره . وأنشد النحويون :
تَنْفِي يداها الحَصَى في كل هاجرة*** نَفْيَ الدَّراهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ{[9016]}
" معدودة " نعت ، وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن{[9017]} . وقيل : هو عبارة عن قلة الثمن ؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان{[9018]} دون الأوقية ، وهي أربعون درهما .
الثانية : قال القاضي ابن العربي : وأصل النقدين الوزن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ) . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار ، فأما عينها فلا منفعة فيه ، ولكن جرى فيها العد{[9019]} تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة ، فيشق الوزن ، حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان ، فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن ، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم .
الثالثة : واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك : فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين ، وهو الظاهر من قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة . وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين ، وحكي عن الكرخي ، وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال : بعتك ، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها ، والدراهم بذمة صاحبها ؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها .
الرابعة : روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى ، في اللقيط أنه حر ، وقرأ : " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " وقد مضى القول فيه .
الخامسة : قوله تعالى : " وكانوا فيه من الزاهدين " قيل : المراد إخوته . وقيل : السيارة . وقيل : الواردة ، وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا ، لا عند الإخوة ؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله ، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى .
السادسة : في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما ؛ ولهذا قال مالك : لو باع دُرَّة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال : لم أعلم أنها درة وحسبتها مَخْشَلَبَة{[9020]} لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله . وقيل : " وكانوا فيه من الزاهدين " أي في حسنه ؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له . وقيل : " وكانوا فيه من الزاهدين " لم يعلموا منزلته عند الله تعالى . وحكى سيبويه والكسائي : زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.