الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّـٰهِدِينَ} (20)

فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وشروه " يقال : شريت بمعنى اشتريت ، وشريت بمعنى بعت لغة ، قال الشاعر{[9012]} :

وشَرَيْتُ بُرْداً ليَتَنِي*** من بَعْدِ بُرْدٍ كنتُ هَامَهُ

أي بعت . وقال آخر :

فلما شَرَاهَا فاضَتِ العينُ عَبْرَةً *** وفي الصدر حَزَّازٌ من اللوم حَامِزُ{[9013]}

" بثمن بخس " أي نقص ، وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم ، أي باعوه بثمن مبخوس ، أي منقوص . ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه . وقيل : إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة . وقيل : لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر ، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا : هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم . وقال قتادة : " بخس " ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء : " بخس " حرام . وقال ابن العربي : ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة ؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ، وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ، أو قالوا{[9014]} لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله . قلت : قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه{[9015]} كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك ، فدل على صحة ما قاله السدي وغيره ؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها ، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه . وقال عكرمة والشعبي : قليل . وقال ابن حيان : زيف . وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وكانوا عشرة ، وقاله قتادة والسدي . وقال أبو العالية ومقاتل : اثنين وعشرين درهما ، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين ، وقاله مجاهد . وقال عكرمة : أربعين درهما ، وما روي عن الصحابة أولى . و " بخس " من نعت " ثمن " .

قوله تعالى : " دراهم معدودة " على البدل والتفسير له . ويقال : دراهيم على أنه جمع درهام ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء ، وليس هذا مثل مد المقصور ؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره . وأنشد النحويون :

تَنْفِي يداها الحَصَى في كل هاجرة*** نَفْيَ الدَّراهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ{[9016]}

" معدودة " نعت ، وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن{[9017]} . وقيل : هو عبارة عن قلة الثمن ؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان{[9018]} دون الأوقية ، وهي أربعون درهما .

الثانية : قال القاضي ابن العربي : وأصل النقدين الوزن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ) . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار ، فأما عينها فلا منفعة فيه ، ولكن جرى فيها العد{[9019]} تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة ، فيشق الوزن ، حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان ، فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن ، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم .

الثالثة : واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك : فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين ، وهو الظاهر من قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة . وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين ، وحكي عن الكرخي ، وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال : بعتك ، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها ، والدراهم بذمة صاحبها ؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها .

الرابعة : روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى ، في اللقيط أنه حر ، وقرأ : " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " وقد مضى القول فيه .

الخامسة : قوله تعالى : " وكانوا فيه من الزاهدين " قيل : المراد إخوته . وقيل : السيارة . وقيل : الواردة ، وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا ، لا عند الإخوة ؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله ، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى .

السادسة : في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما ؛ ولهذا قال مالك : لو باع دُرَّة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال : لم أعلم أنها درة وحسبتها مَخْشَلَبَة{[9020]} لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله . وقيل : " وكانوا فيه من الزاهدين " أي في حسنه ؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له . وقيل : " وكانوا فيه من الزاهدين " لم يعلموا منزلته عند الله تعالى . وحكى سيبويه والكسائي : زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها .


[9012]:هو يزيد بن مفرغ الحميري، و (برد) اسم عبد كان له ندم على بيعه.
[9013]:البيت للشماخ، قاله في رجل باع قوسه من رجل. وحامز: عاصر، وقيل: أي ممض محرق. ويروى: من الوجد (اللسان).
[9014]:في ع و ك و و : وقالوا.
[9015]:في ع و ك و ي: وافية كاملة.
[9016]:البيت للفرزدق، وصف ناقة سريعة السير في الهواجر، فشبه خروج الحصى من تحت مناسمها بارتفاع الدراهم عن الأصابع إذا نقدت.
[9017]:في ع و ي: يوزن.
[9018]:من ع و ك و ي.
[9019]:في ع و ك و و و ي: العدد.
[9020]:المخشلبة: خرز أبيض يشاكل اللؤلؤ.