الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " بدم كذب " قال مجاهد : كان دم سخلة أو جَدْي ذبحوه{[8999]} . وقال قتادة : كان دم ظبية ، أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه ، فوصف الدم بالمصدر ، فصار تقديره : بدم ذي كذب ، مثل : " وسئل القرية " [ يوسف : 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر ، يقال : هذا ضرب الأمير ، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب ، وماء غور أي غائر ، ورجل عدل أي عادل . وقرأ الحسن وعائشة : " بدم كدب " بالدال غير المعجمة ، أي بدم طري ، يقال للدم الطري الكدب . وحكي أنه المتغير ، قاله الشعبي . والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث ، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين .

الثانية : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التنييب{[9000]} ؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ، ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان هذا الذئب ، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص ! قاله ابن عباس وغيره ، روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان الدم دم سخلة . وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نظر إليه قال كذبتم ، لو كان الذئب أكله لخرق القميص . وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات : حين جاؤوا عليه بدم كذب ، وحين قد قميصه من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا . قلت : وهذا مردود ، فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُدّ ، وغير القميص الذي أتاه البشير به . وقد قيل : إن القميص الذي قُدّ هو الذي أتي به فارتد بصيرا ، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى . وروي أنهم قالوا له : بل اللصوص قتلوه ، فاختلف قولهم ، فاتهمهم ، فقال لهم يعقوب : تزعمون أن الذئب أكله ، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده ، وما أرى بالقميص من شق ، وتزعمون أن اللصوص قتلوه ، ولو قتلوه لأخذوا قميصه ، هل يريدون إلا ثيابه ؟ ! فقالوا عند ذلك : " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " عن الحسن وغيره ، أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا .

استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص ، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح ، وهي قوة التهمة ؛ ولا خلاف بالحكم بها ، قاله بن العربي .

قوله تعالى :{ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } .

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : روي أن يعقوب لما قالوا له : " فأكله الذئب " قال لهم : ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به ؟ ! ألم يترك لي{[9001]} ثوبا أشم فيه رائحته ؟ قالوا : بلى ! هذا قميصه ملطوخ بدمه ، فذلك قوله تعالى : " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " فبكى يعقوب عند ذلك وقال لبنيه : أروني قميصه ، فأروه فشمه وقبله ، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه ، أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه ، وعلم أن الأمر ليس كما قالوا ، وأن الذئب لم يأكله ، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال : يا معشر ولدي ! دلوني على ولدي ، فإن كان حيا رددته إلي ، وإن كان ميتا كفنته ودفنته ، فقيل قالوا حينئذ : ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا ! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا ، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه ، فقال يهوذا : والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت ، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم ، قالوا : فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا ، قال : فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم ، وأوثقوه بالحبال ، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا : يا أبانا ! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها ، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه ، وهذا دمه عليه ، فقال يعقوب : اطلقوه ، فأطلقوه ، وتبصبص له الذئب ، فأقبل يدنو منه{[9002]} ويعقوب يقول له : ادن ادن ، حتى ألصق خده بخده{[9003]} فقال له يعقوب : أيها الذئب ! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ؟ ! ثم قال اللهم أنطقه ، فأنطقه الله تعالى فقال : والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه ، ولا مزقت جلده ، ولا نتفت شعرة من شعراته ، والله ! ما لي بولدك عهد ، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقِد ، فلا أدري أحي هو أم ميت ، فاصطادني أولادك وأوثقوني ، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش ، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش ، فأطلقه يعقوب وقال : والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم ، هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذِمام أخيه ، وأنتم ضيعتم أخاكم ، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به . " بل سولت " أي زينت لكم . " أنفسكم أمرا " غير ما تصفون وتذكرون .

وتذكرون . ثم قال توطئة لنفسه : " فصبر جميل " وهي :

الثانية : قال الزجاج : أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل . وقال قطرب : أي فصبري صبر جميل . وقيل : أي فصبر جميل أولى بي ، فهو مبتدأ وخبره محذوف . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال : ( هو الذي لا شكوى معه ) . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله . قال أبو حاتم : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف " فصبرا جميلا " قال : وكذا قرأ الأشهب العقيلي ، قال وكذا . في مصحف أنس وأبي صالح . قال المبرد : " فصبر جميل " بالرفع أولى من النصب ؛ لأن المعنى : قال رب عندي صبر جميل ، قال : وإنما النصب على المصدر ، أي فلأصبرن صبرا جميلا ، قال :

شكَا إليّ جَمَلِي طولَ السُّرَى *** صبراً{[9004]} جميلاً فكِلاَنَا مُبْتَلَى

والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى . وقيل : المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين ، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم ، وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم . وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه ، فكان يرفعهما بخرقة ، فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب ؟ ! قال : يا رب ! خطيئة أخطأتها فاغفر لي . " والله المستعان " ابتداء وخبر . " على ما تصفون " أي على احتمال ما تصفون من الكذب .

الثالثة : قال ابن أبي رفاعة : ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي ، حين قال له بنوه : " إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب " قال : " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " فأصاب هنا ، ثم قالوا له : " إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين{[9005]} " [ يوسف : 81 ] قال : " بل سولت لكم أنفسكم أمرا " فلم يصب .


[8999]:في ع: أو نحوه.
[9000]:في ع: التخريق.
[9001]:في ع: له.
[9002]:من ع و ك و ي.
[9003]:في ع و ك و و: بفخذه.
[9004]:ويروى (صبر جميل) في البيت، وتحمل على إضمار مبتدأ أو خبر. ويروى (صبرا جميل) على نداء الجمل.
[9005]:راجع ص 244 من هذا الجزء.