الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

قوله تعالى : " وجاءت سيارة " أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران ، إنما هو للرعاة والمجتاز ، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف . " فأرسلوا واردهم " فذكر على المعنى ؛ ولو قال : فأرسلت واردها لكان على اللفظ ، مثل " وجاءت " . والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم ، وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر{[9006]} ، من العرب العاربة . " فأدلى دلوه " أي أرسله ؛ يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها ، ودلاها أي أخرجها : عن الأصمعي وغيره . ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا ، أي جذب وأخرج ، وكذلك أدلى إذا أرسل ، فلما ثقل ردوه إلى الياء ، لأنها أخف من الواو ، قاله الكوفيون . وقال الخليل وسيبويه : لما جاوز ثلاثة أحرف رجع{[9007]} إلى الياء ، اتباعا للمستقبل . وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت : دُلِي ودِلِي ، فقلبت الواو ياء ، إلا أن الجمع بابه التغيير ، وليفرق بين الواحد والجمع ؛ ودلاء أيضا . " قال يا بشرى هذا غلام " فتعلق يوسف بالحبل ، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر ، أحسن ما يكون من الغلمان . قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم : ( فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ) . وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العينين ، مستوي الخلق ، أبيض اللون ، غليظ الساعدين والعضدين ، خميص البطن ، صغير السرة ، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه ، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه ، لا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل ، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية ، وقيل : إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة ، وكانت قد أعطيت سدس الحسن ، فلما رآه مالك بن دعر قال : " يا بشراي هذا غلام " وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة ، إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ " يا بُشْرَيَّ هذا غلام " فقلب الألف ياء ، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها ، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا . وقرأ أهل الكوفة " يا بشرى " غير مضاف ؛ وفي معناه قولان : أحدهما : اسم الغلام ، والثاني : معناه{[9008]} يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك . قال قتادة والسدي : لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال : يا بشرى هذا غلام ، قال قتادة : بشر أصحابه بأنه وجد عبدا . وقال السدي : نادى رجلا اسمه بشرى . قال النحاس : قول قتادة أولى ؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا ، وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل : " ويوم يعض الظالم على يديه{[9009]} " [ الفرقان : 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط ، وبعده " يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " [ الفرقان : 28 ] وهو أمية بن خلف ، قال النحاس . والمعنى في نداء البشرى : التبشير لمن حضر ، وهو أوكد من قولك تبشرت ، كما تقول : يا عجباه ! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك ، فاحضر ، وهذا مذهب سيبويه ، وكذا قال السهيلي . وقيل : هو كما تقول : واسروراه ! وأن البشرى مصدر من الاستبشار : وهذا أصح ؛ لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى ضمير المتكلم ، وعلى هذا يكون " بشراي " في موضع نصب ؛ لأنه نداء مضاف ، ومعنى النداء ههنا التنبيه ، أي انتبهوا لفرحتي وسروري ، وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول : يا زيد هذا غلام . ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك : يا رجلا ، وقوله : " يا حسرة على العباد{[9010]} " [ يس :30 ] ولكنه لم ينون " بشرى " لأنه لا ينصرف . " وأسروه بضاعة " الهاء كناية عن يوسف عليه السلام ، فأما الواو فكناية عن إخوته . وقيل : عن التجار الذين اشتروه ، وقيل : عن الوارد وأصحابه . " بضاعة " نصب على الحال . قال مجاهد : أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة ، وقالوا لهم : هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر ، وإنما قالوا هذا خيفة الشركة . وقال ابن عباس : أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب ، وذلك أنهم جاؤوا فقالوا : بئس ما صنعتم ! هذا عبد لنا أبق ، وقالوا ليوسف بالعبرانية : إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء ، وإما أن نأخذك فنقتلك ؛ فقال : أنا أقر لكم بالعبودية ، فأقر لهم فباعوه منهم . وقيل : إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل ، قتلوك ، فلعل الله أن يجعل لك مخرجا ، وتنجو من القتل ، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، فقال مالك : والله ما هذه سمة العبيد ! ، قالوا : هو تربى في حجورنا ، وتخلق بأخلاقنا ، وتأدب بآدابنا ، فقال : ما تقول يا غلام ؟ قال : صدقوا ! تربيت في حجورهم ، وتخلقت بأخلاقهم ، فقال مالك : إن بعتموه مني اشتريته منكم{[9011]} ، فباعوه منه .


[9006]:دعر: هو بالدال المهملة وبالذال تصحيف كما في القاموس.
[9007]:في ع: ردوه.
[9008]:من ع.
[9009]:راجع ج 13 ص 25.
[9010]:راجع ج 15 ص 22.
[9011]:في ع: اشتريتك منهم. أي على الالتفات.