الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (27)

قوله تعالى : " قال هي راودتني عن نفسي " فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قال العلماء{[9054]} : لما برأت نفسها ، ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال : " هي راودتني عن نفسي " نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه . قال نوف الشامي وغيره : كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية ، فلما بغت به غضب فقال الحق .

الثانية : قوله تعالى : " وشهد شاهد من أهلها " لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب ، فشهد شاهد من أهلها . أي حكم حاكم من أهلها ؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة . وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة : الأول - أنه طفل في المهد تكلم ، قال السهيلي : وهو الصحيح ، للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة . . . ) وذكر فيهم شاهد يوسف . وقال القشيري أبو نصر : قيل فيه{[9055]} : كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تكلم أربعة وهم صغار . . . ) فذكر منهم شاهد يوسف ، فهذا قول . الثاني - أن الشاهد قد القميص ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات ، وذلك كثير في أشعارها وكلامها ، ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال له : سل من يدقني . إلا أن قول الله تعالى بعد " من أهلها " يبطل أن يكون القميص . الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني ، قاله مجاهد أيضا ، وهذا يرده قوله تعالى : " من أهلها " . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره ، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال : قد سمعت{[9056]} الاستبدار والجلبة من وراء الباب ، وشق القميص ، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة ، وإن كان من خلفه فهو صادق ، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف ، هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي . قال السدي : كان ابن عمها ، وروي عن ابن عباس ، وهو الصحيح في الباب ، والله أعلم . وروي عن ابن عباس - رواه عنه{[9057]} إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال : كان رجلا ذا لحية . وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال : كان من خاصة الملك . وقال عكرمة : لم يكن بصبي ، ولكن كان رجلا حكيما . وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : كان رجلا . قال أبو جعفر النحاس : والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ، ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة ؛ لأن كلام الطفل آية معجزة ، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة ، وليس هذا بمخالف للحديث ( تكلم أربعة وهم صغار ) منهم صاحب يوسف ، يكون المعنى : صغيرا ليس بشيخ ، وفي هذا دليل آخر وهو : أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي . قلت : قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف{[9058]} والضحاك أنه كان صبيا في المهد ، إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه ، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص ، وكان يكون ذلك خرق عادة ، ونوع معجزة ، والله أعلم . وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ]{[9059]} إن شاء الله .

الثالثة : إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا ، وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع ، حتى قال مالك في اللصوص : إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها ، وليست لهم بينة فإن السلطان يَتَلَوَّمُ{[9060]} لهم في ذلك ، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم . وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل : إن ما كان للرجال فهو للرجل ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل . وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات ، وأصل ذلك هذه الآية ، والله أعلم .

قوله تعالى : " إن كان قميصه قد من قبل " كان في موضع جزم بالشرط ، وفيه من النحو ما يشكل ؛ لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل ، وليس هذا في كان ، فقال المبرد محمد بن يزيد : هذا لقوة كان ، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال . وقال الزجاج : المعنى إن يكن ، أي إن يعلم ، والعلم لم يقع ، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم . " قد من قبل " فخبر عن " كان " بالفعل الماضي ، كما قال زهير :

وكان طَوَى كَشْحاً على مُسْتَكِنَّةٍ*** فلا هُوَ أبدَاها ولم يَتَقَدَّمِ{[9061]}

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق " من قبل " بضم القاف والباء واللام ، وكذا " دبر " قال الزجاج : يجعلهما غايتين كقبل وبعد ، كأنه قال : من قبله ومن دبره ، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له . ويجوز " من قبل " " ومن دبر " بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف ؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه . وروى محبوب عن أبي عمرو " من قبل " " ومن دبر " مخففان مجروران .


[9054]:في ع: الحسن.
[9055]:من ع.
[9056]:في ع: سمعنا.
[9057]:من ع و ي.
[9058]:هو بالكسر وقد يفتح.
[9059]:راجع ج 19 ص 287.
[9060]:التلوم: التنظر للأمر تريده.
[9061]:الكشح: الجنب، ويقال: طوى كشحه على كذا إذا أضمره، والمستكنة: الحقد. ويروى: (ولم يتجمجم).