البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (27)

وقرأ الجمهور : من قبل ، ومن دبر ، بضم الباء فيهما والتنوين .

وقرأ الحسن وأبو عمر ، وفي رواية : بتسكينها وبالتنوين ، وهي لغة الحجاز وأسد .

وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، ونوح القارئ ، والجارود بن أبي سبرة بخلاف عنه : من قبل ، ومن دبر ، بثلاث ضمات .

وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجارود أيضاً في رواية عنهم : بإسكان الباء مع بنائهما على الضم ، جعلوها غاية نحو : من قبل .

ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما لأنهما إسمان متمكنان ، وليسا بظرفين .

وقال أبو حاتم : وهذا رديء في العربية ، وإنما يقع هذا البناء في الظروف .

وقال الزمخشري : والمعنى من قبل القميص ومن دبره ، وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها : قبل ، ومن جهة يقال لها : دبر .

وعن ابن أبي إسحاق : أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح ، كان جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث .

وقال أيضاً : ( فإن قلت ) : إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها ؟ ( قلت ) : من وجهين : أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع .

والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها ، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى .

وقوله : وهو من الكاذبين ، وهو من الصادقين ، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله : فصدقت ، يعلم كذبه .

ومن قوله : فكذبت ، يعلم صدقه .

وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده ، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل ، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر ، ولم يضمر ليدل على الاستقلال ، ولكون التصريح به أوضح .

وهو نظير قوله : «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى »