قوله تعالى : " فلما سمعت بمكرهن " أي بغيبتهن إياها ، واحتيالهن في ذمها . وقيل : إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها ، فسمي ذلك مكرا . وقوله : " أرسلت إليهن " في الكلام حذف ، أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه ، فقال مجاهد عن ابن عباس : إن امرأة العزيز قالت لزوجها : إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة ، فقال لها : افعلي ، فاتخذت طعاما ، ثم نجدت لهن البيوت ، نجدت أي : زينت ، والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين ، والجمع نجود عن أبي عبيد{[9073]} ، والتنجيد التزيين ، وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها ، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت . قال وهب بن منبه : إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن ، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت :
حتى إذا جئنَها قَسْراً*** ومَهَّدَتْ لهُنَّ أنضَاداً وكبابا{[9074]}
ويروى : أنماطا . قال وهب بن منبه{[9075]} : فجئن وأخذن مجالسهن . " وأعتدت لهن متكأ " أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها . قال ابن جبير : في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد . وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير " مُتْكاً " مخففا غير مهموز ، والمتك هو الأترج بلغة القبط ، وكذلك فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : المتكأ مثقلا هو{[9076]} الطعام ، والمتك مخففا هو{[9077]} الأترج ، وقال الشاعر :
نشربُ الإثم بالصُّوَاعِ جِهَاراً *** وترى المُتْك بينَنَا مُسْتَعَارَا
وقد تقول أزد شنوءة : الأترجة المتكة ، قال الجوهري : المُتْك ما تبقيه الخاتنة . وأصل المتك الزماورد{[9078]} . والمتكاء من النساء التي لم تُخْفَض{[9079]} . قال الفراء : حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد . وقال بعضهم : إنه الأترج ، حكاه الأخفش . ابن زيد : أترجا وعسلا يؤكل به ، قال الشاعر{[9080]} :
فَظِلْنَا بنعمة واتَّكَأْنَا *** وشرِبْنَا الحَلاَلَ من قُلَلِه
النحاس : قوله تعالى : " واعتدت " من العتاد ، وهو كل ما جعلته عدة لشيء . " متكأ " أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : مجلسا ، وأما قول جماعة من أهل التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير : طعام متكأ ، مثل : " واسأل القرية " ، ودل على هذا الحذف " وآتت كل واحدة منهن سكينا " لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين ، كذا قال في كتاب " إعراب القرآن " له . وقال في كتاب " معاني القرآن " له{[9081]} : وروى معمر عن قتادة قال : " المتكأ " الطعام . وقيل : " المتكأ " كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث ، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة ، إلا أن الروايات قد صحت بذلك . وحكى القتبي أنه يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا ، والأصل في " متكأ " موتكأ ، ومثله متزن ومتعد ؛ لأنه من وزنت ، ووعدت ووكأت ، ويقال : اتكأ يتكئ اتكاء . " كل واحدة منهن سكينا " مفعولان ، وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث ، وأنشد الفراء :
فَعَيَّثَ{[9082]} في السَّنَامِ غداةَ قُرٍّ *** بسكين مُوَثَّقَةَ النِّصَابِ
الجوهري : والغالب عليه التذكير ، وقال :
يُرَى ناصحا فيما بدا فإذا خلا *** فذلك سكينٌ على الحَلْقِ حَاذِقُ
الأصمعي : لا يعرف في السكين إلا التذكير .
قوله تعالى : " وقالت اخرج عليهن " بضم التاء لالتقاء الساكنين ؛ لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة ، وكسرت التاء على الأصل . قيل : إنها قالت لهن : لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن ، ثم قالت لخادمها : إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف ، وإيل : صنم كانوا يعبدونه ، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين ، وقد شد مئزره ، وحسر عن ذراعيه ، فقالت للخادم : ادع لي إيلا ، أي ادع لي الرب ، وإيل بالعبرانية الرب ، قال : فتعجب النسوة وقلن : كيف يجيء ؟ ! فصعدت الخادم فدعت يوسف ، فلما انحدر قالت لهن : اقطعن ما معكن . " فلما رأينه أكبرنه " واختلف في معنى " أكبرنه " فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : أعظمنه{[9083]} وهبنه ، وعنه أيضا : أمنين وأمذين من الدهش ، وقال الشاعر :
إذا ما رأيْنَ الفحلَ من فوق قَارَةٍ{[9084]} *** صَهَلْنَ وأكْبَرْنَ المنيَّ المُدَفَّقَا
وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه : إنهم قالوا أمذين عشقا . وهب بن منبه : عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف . وقيل : معناه حضن من الدهش ، قاله قتادة ومقاتل والسدي{[9085]} ، قال الشاعر :
نأتي النساء على أطهارهن*** ولا نأتي النساء إذا أكْبَرْنَ إكْبَارَا
وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا : ليس ذلك في كلام العرب ، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له ، وقد تقزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض . قال الزجاج : يقال أكبرنه ، ولا يقال حضنه ، فليس الإكبار بمعنى الحيض ، وأجاب الأزهري فقال : يجوز أكبرت بمعنى حاضت ؛ لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر ، قال : والهاء في " أكبرنه " يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية ، وهذا مزيف ؛ لأن هاء الوقف تسقط في الوصل ، وأمثل منه قول ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل ، أي أكبرن إكبارا ، بمعنى حضن حيضا . وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف ، أي أعظمن يوسف وأجللنه .
قوله تعالى : " وقطعن أيديهن " بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم ، قاله وهب بن منبه . سعيد بن جبير : لم يخرج عليهن حتى زينته ، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه ، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه ، فجعلن يقطعن أيديهن ، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج ، قال مجاهد : قطعنها حتى ألقينها . وقيل : خدشنها . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد{[9086]} قال : حزا بالسكين ، قال النحاس : يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد ، إنما هو خدش وحز ، وذلك معروف في اللغة أن يقال : إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده . وقال عكرمة : " أيديهن " أكمامهن ، وفيه بعد . وقيل : أناملهن ، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح ، أي لشغل قلوبهن بيوسف ، والتقطيع يشير إلى الكثرة ، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع ، ويمكن أن يرجع إلى عددهن .
قوله تعالى : " وقلن حاش لله " أي معاذ الله . وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء . " وقلن حاشا لله " بإثبات الألف وهو الأصل ، ومن حذفها جعل اللام في " لله " عوضا منها . وفيها أربع لغات ؛ يقال : حاشاك وحاشَا لك وحاشَ لك وحَشَا لك . ويقال : حاشا زيد وحاشا زيدا ، قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : النصب أولى ؛ لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد ، والحرف لا يحذف منه ، وقد قال ، النابغة :
ولا أُحَاشِي من الأقوامِ من أَحَدِ{[9087]}
وقال بعضهم : حاش حرف ، وأحاشي فعل . ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها . وحكى أبو زيد عن أعرابي : اللهم اغفر لي ولمن يسمع{[9088]} ، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ{[9089]} ، فنصب بها . وقرأ الحسن " وقلن حاش لله " بإمكان الشين ، وعنه أيضا " حاش الإله " . ابن مسعود وأبي : " حاش الله " بغير لام ، ومنه قول الشاعر{[9090]} :
حاشَا أبي ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ *** ضَنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال الزجاج : وأصل الكلمة من الحاشية ، والحشا بمعنى الناحية ، تقول : كنت في حشا فلان أي في ناحيته ، فقولك : حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه ، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين . وقال أبو علي : هو فاعل من المحاشاة ، أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به ، أو من أن يكون بشرا ، فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه ، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل .
قوله تعالى : " ما هذا بشرا " قال الخليل وسيبويه : " ما " بمنزلة ليس ، تقول : ليس زيد قائما ، و " ما هذا بشرا " و " ما هن أمهاتهم " {[9091]} [ المجادلة : 2 ] . وقال الكوفيون : لما حذفت الباء نصبت ، وشرج هذا - فيما قال أحمد بن يحيى ، - إنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض ، فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها ، قال : وهذا قول الفراء ، قال : ولم تعمل " ما " شيئا ، فألزمهم البصريون أن يقولوا : زيد القمر ؛ لأن المعنى كالقمر ! فرد أحمد بن يحيى بأن قال : الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف ؛ لأن الكاف تكون اسما . قال النحاس : لا يصح إلا قول البصريين ، وهذا القول يتناقض ؛ لأن الفراء أجاز{[9092]} نصا ما بمنطلق زيد ، وأنشد :
أما والله أنْ لو كنتَ حُرًّا *** وما بالحرِّ أنتَ ولا العَتِيقِ
ومنع{[9093]} نصًّا النصب ، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز : ما فيك براغب زيد ، وما إليك بقاصد عمرو ، ثم يحذفون الباء ويرفعون . وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع ، وحكى البصريون أنها لغة تميم ، وأنشدوا :
أتيمًا تجعلون إليّ نِدًّا*** وما تيمٌ لذِي حسب نَدِيدٌ
الند والنديد والنديدة المثل والنظير . وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد . وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين : قال أبو إسحاق : وهذا غلط ، كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى .
قلت : وفي مصحف حفصة رضي الله عنها " ما هذا ببشر " ذكره الغزنوي . قال القشيري أبو نصر : وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن من صورة البشر{[9094]} ، بل هو في صورة ملك ، وقال الله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم{[9095]} " [ التين : 4 ] والجمع بين الآيتين أن قولهن : " حاش لله " تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز . من المراودة ، أي بعد يوسف عن هذا ، وقولهن : " لله " أي لخوفه ، أي براءة لله من هذا ، أي قد نجا يوسف من ذلك ، فليس هذا من الصورة في شيء ، والمعنى : أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة ، فعلى هذا لا تناقض . وقيل : المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة ، لفرط جماله . وقوله : " لله " تأكيد لهذا المعنى ، فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن ، وما بلغهن قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " [ التين : 4 ] فإنه من كتابنا . وقد ظن بعض الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن ، ويبين كذبهن ، وهذا باطل ؛ إذ لا وجوب على الله تعالى ، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه ، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان ، وفي الحسن كأنه ملك ، أي لم ير مثله ؛ لأن الناس لا يرون الملائكة ، فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن ، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم . . " إن هذا إلا ملك " أي ما هذا إلا ملك ، وقال الشاعر{[9096]} :
فلستَ لإنسيٍّ ولكنْ لمِلأكٍ *** تَنَزَّلَ من جَوِّ السماءِ يَصُوبُ
وروي عن الحسن : " ما هذا بشرى " بكسر الباء والشين ، أي ما هذا عبدا مشترى ، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع ، فوضع المصدر موضع اسم المفعول ، كما قال : " أحل لكم صيد البحر{[9097]} " [ المائدة : 96 ] أي مصيده ، وشبهه كثير . ويجوز أن يكون المعنى : ما هذا بثمن ، أي مثله لا يثمن ولا يقوم ، فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به : كقولك : ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل : هذا بألف . فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر ، كأنه قال : ما هذا مقدرا بشراء . وقراءة العامة أشبه ؛ لأن بعده " إن هذا إلا ملك كريم " مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه ، ولأن مثل " بشرى " يكتب في المصحف بالياء .