ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
يا للهول الهائل ! ويا للرعب القاتل ! ويا للجلال الماثل !
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : " إذا قال الله تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار " . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة !
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه . . !
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها .
{ ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا } أي قياسها ومقدار طولها { سَبْعُونَ ذِرَاعاً } يجوز أن يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمة كونها على هذا العدد ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذٍ بالكوفة الذراع سبعون باعاً والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص { فَاْسْلُكُوهُ } أي فادخلوه كما في قوله تعالى { فسلكه ينابيع في الأرض } [ الزمر : 21 ] وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقاً فيما بينها لا يستطيع حراكاً ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالثعلب في الجبة والثعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال قال ابن عباس أن السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل أن في الآية قلباً والأصل فاسكلوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } [ المدثر : 3 ] والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة الخ فقدم الظرف وما معه عوضاً عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثم في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك على ما اختاره جمع وجوز بعضهم كونها على ظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد وزعم بعض أن ثم الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خذوه إشعاراً بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فاسلكوه لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وكل ما قيل أنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن في سلسلة ليس معمولاً لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدماً على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون في سلسلة مقدماً على عامله .
قوله : { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } السلسلة ، حلقات منتظمة من الحديد يمسك بعضها ببعض . وذرعها يعني طولها . أما المراد بالذراع في الآية ، فالله أعلم بقدر طولها .
واسلكوه ، يعني اجعلوه فيها . يقال : سلك الشيء في الشيء فانسلك أي أدخله فيه فدخل{[4620]} والمراد إدخاله في السلسة ، وقيل : إنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه . وقيل : تدخل من فيه وتخرج من دبره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم اسكلوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، بذراعٍ اللّهٌ أعلم بقدر طولها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فذكر أولا أنهم يغلون، ثم يصلون الجحيم، ثم يسلسلون إذ ذاك، وحق مثله أن يسلسل، ثم يمد إلى جهنم. ولكن يشبه أن يكونوا أولا يحشرون، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} [الزمر: 71] أو إذا وردوها هموا أن يفروا منها، فيسلسلون إذ ذاك، ويسحبون في النار حينئذ، فلا يتهيأ لهم الهرب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
تقديره: ثم اسلكوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا فاسلكوه فيها، فالسلسلة حلق منتظمة كل واحدة منها في الأخرى... وقيل: اسلكوه في السلسلة، لأنه يأخذ عنقه فيها، ثم يجر بها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سلكه في السلسلة: أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أثناؤها؛ وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة؛ وجعلها سبعين ذراعاً إرادة الوصف بالطول. كما قال: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 80]، يريد: مرات كثيرة، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد. والمعنى في تقديم السلسلة على السلك: مثله في تقديم الجحيم على التصلية. أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {ذرعها} معناه مبلغ أذرع كيلها، وقد جعل الله تعالى السبعمائة والسبعين والسبعة مواقف ونهايات لأشياء عظام، فذلك مشي البشر: العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات، وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل فيها السبعين نهاية. وقرأ السدي: «ذرعها سبعين» بالياء، وهذا على حذف خبر الابتداء، واختلف الناس في قدر هذا الذراع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها، فقال مؤذناً بعدم الخلاص: {ثم في سلسلة} أي عظيمة جداً لا ما هو دونها. ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال: {ذرعها} أي في أيّ شيء فرضت من طول أو عرض {سبعون ذراعاً} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة، وأن يكون مبالغة... وأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال: {فاسلكوه} أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك -أي الحبل- الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلاً، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {ثم} من قوله: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها، لأن مضمون {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً} أعظم من مضمون {فغلوه. ومضمون {فاسلكوه} دل على إدخاله الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم. ومعنى {اسلكوه}: اجعلوه سالِكاً، أي داخلاً في السلسلة وذلك بأن تَلف عليه السلسلة فيكون في وسطها، ويقال: سلَكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبَّلاً في أغلاله. وتقديم {الجحيمَ} على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم {في سلسلة} على عامله. والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحثُّ على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف،
والسلسلة: اسم لمجموع حَلَق من حديد داخلٍ بعضُ تلك الحَلَق في بعض تجعل لِوثاق شخص كي لا يزول من مكانه،
وجملة {ذرعها سبعون ذراعاً} صفة {سِلْسلة} وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلَّقِهِ للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة.