ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .
فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !
والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :
( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !
ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !
ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?
وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :
( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :
( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .
وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .
وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .
وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا } نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى : { وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } [ الأحقاف : 16 ] .
{ وإحساناً } قيل : مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى الزمنا ، وقيل : منصوب على المصدر على تضمين { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا } معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً ، وقيل : صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان ، وقيل : مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما ، وقال ابن عطية : إنه منصوب على المصدر الصريح و { بوالديه } متعلق بوصينا ، أو به وكأنه عنى يحسن إحساناً وهو حسن ، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحساناً بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول : أحسنت لزيد ولا تقول : أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه ، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصاً بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري ، وقد قالوا : إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه .
والجار والمجرور محمول عليه ، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة ك { لا تأخذكم بهما رأفة } [ النور : 2 ] ومعرفة نحو { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } [ الصافات : 102 ] وتأويل كل ذلك تكلف ، وأيضاً قوله : لأن أحسن لا يتعدى بالباء الخ فيه منع ظاهر ، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال : وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحساناً ، ولعل التنوين للتفخيم أي إحساناً عظيماً ، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات ، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به ، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها ، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل ، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جداً ، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد .
وقرأ الجمهور { حَسَنًا } بضم الحاء وإسكان السين أي فعلاً ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه ، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى { إحسانا } فالأقوال السابقة تجري فيه . وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه . والسلمي . وعيسى { حَسَنًا } بفتح الحاء والسين ، وعن عيسى { حَسَنًا } بضمهما .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي ذات كره أو حملاً ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد .
والحسن . وقتادة ، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تحد له ثقلاً . وقرأ شيبة . وأبو جعفر . والحرميان { كَرْهاً } بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف ، وقيل : المضموم اسم والمفتوح مصدر .
وقال الراغب : قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع . وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال : لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة . وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها ، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراآت بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه { وَحَمْلُهُ وفصاله } أي مدة حمله وفصاله ، وبتقدير المضاف يصح حمل قوله تعالى : { ثَلاَثُونَ شَهْراً } على المبتدأ من غير كره .
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته . وقرأ أبو رجاء . والحسن . وقتادة . ويعقوب . والجحدري { وفصاله } أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناءً ومعنى ؛ وقيل : الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل ، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهى بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك ، وفي الوصف تطويل ، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها ، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب ، فقد روي «أن رجلاً قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أباك » وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك . واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس رضي الله تعالى عنهما . وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء ، قال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة . وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك .
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه ؛ وقال ابن سينا في الشفا : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً نبتت أسنانه ، وحكي عن أرسطو أنه قال : أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر ، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر ؛ وتحقق ارتباط حكم النسب بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لما يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا ، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } الظاهر أنه غير بلوغ الأشد ، وقال بعضهم : إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد .
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جداً خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد ، وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح » وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار » وعلى ذلك قول الشاعر :
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن *** له دون ما يهوى حياءً ولا ستر فدعه
ولا تنفس عليه الذي مضى *** وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقيل : لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين ، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلاً بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما ، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال : من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال .
وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ الكتاب وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] ، { وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] بأنهما أخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل ، ومثله كثير في الآيات وغيرها ، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ . وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلاً كالرقيق والأنثى ، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم : { قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى } أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعاً به راغباً في تحصيله . وقرأ البزي { أَوْزِعْنِى } بفتح الياء { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل ، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذٍ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم ، وقيل : إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى .
واعترض على التعليل بابن عمر . وأسامة بن زيد . وغيرهما ، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب : إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى الله عليه وسلم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبىء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال : { رَبّ أَوْزِعْنِى } الخ { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } التنوين للتفخيم والتكثير ، والمراد بكونه مرضياً له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالماً من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما ، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك : وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } أي اجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم كما في قوله :
فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها *** لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي
على أن { إصلاح } نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي ، وقيل : عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي ألطف بي في ذريتين ، والأول أحسن ، قال ابن عباس : أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال . وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ، ودعا أيضاً فقال : { إصلاح لِى فِى ذُرّيَّتِى } فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً ، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين { إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ } عما لا ترضاه أو يشغل عنك { وَإِنّى مِنَ المسلمين } الذين أخلصوا أنفسهم لك .