( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . هو الذي أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله - وما يعلم تأويله إلا الله - والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، إن الله لا يخلف الميعاد ) . .
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي [ ص ] وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله ، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين . لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل !
هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع ، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم ، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمدا . والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها . والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف ! والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه ، وتضرعهم له ، ومعرفتهم بصفاته تعالى :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . .
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد ، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين ، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين : يهودا أو نصارى . على اختلاف مللهم ونحلهم جميعا . كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض . فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديدا كاملا دقيقا .
( الله لا إله إلا هو ) . . فلا شريك له في الألوهية . . ( الحي ) . . الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته . . ( القيوم ) . . الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود ؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود . فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه .
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . ومفرق الطريق في الحياة والسلوك .
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . بين تفرد الله - سبحانه - بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية : سواء في ذلك تصورات المشركين - وقتها في الجزيرة - وتصورات اليهود والنصارى - وبخاصة تصورات النصارى .
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله . كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم " الكتاب المقدس " يتضمن شيئا كهذا . كما جاء في سفر التكوين : الإصحاح السادس .
فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم : إن الله ثالث ثلاثة . وقولهم : إن الله هو المسيح بن مريم . واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله . واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . .
وقد جاء في كتاب " الدعوة إلى الإسلام " تأليف أرنولد ، شيء عن هذه التصورات . .
ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهرا من مظاهر الوحدة . ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته ، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك ، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة . أما هرقل فقد بذل جهودا لم تصادف نجاحا كاملا في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية . ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلا من القضاء عليه . ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية . فحاول بتفسيره العقيدة تفسيرا يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات ؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية ، وبينهم وبين الحكومة المركزية . . وكان مجمع خلقيدونية قد اعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما ، ولا تغير ، ولا تجزؤ ، ولا انفصال . ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما . بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها ؛ وتجتمع في أقنوم واحد ، وجسد واحد . لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين . بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة . . وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع ، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة . وقالوا : إنه مركب الأقانيم . له كل الصفات الإلهية والبشرية . ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية . بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم . . وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية ، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة . ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين ، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية . وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد . فالمسيح الواحد ، الذي هو ابن الله ، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة . ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة . . لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جدا ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام . ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب ، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد ، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء "
كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو " كانون تايلور " عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية : " وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة " .
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها : عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام . وكان أقل عقائدهم انحرافا عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) !
فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة - ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . . كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك . .
إن الذي يمتلىء شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو . الحي الواحد الذي لا حي غيره . القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود ، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود . .
إن الذي يمتلىء شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته ، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة . فلا يجد في ضميره أثرا لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته !
إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله . ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله . لا في شريعة أو نظام ، ولا في أدب أو خلق . ولا في اقتصاد أو اجتماع . ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة ، وما بعد الحياة . . أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار ، ولا حدود لحرام أو حلال ، ولا لخطأ أو صواب : في شرع أو نظام ، في أدب أو خلق ، وفي معاملة أو سلوك . . فكلها . . كلها . . إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي ، وإليها التوجه ، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام .
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . .
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية - لا لطبيعة الاعتقاد وحده - فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقا من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم . التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة . من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة . والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه .
قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة ، ومن حيث جاء في هذه السورة { الله لا أله إلا هو الحي القيوم } جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في { الم } في هذه السورة ، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول : هذه الحروف كتابك أو نحو هذا .
ويدل قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال : وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 21 ] وترك الجواب لدلالة قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }{[2896]} تقديره : كمن قسا قلبه . ومنه قول الشاعر{[2897]} : [ الطويل ]
فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ . . . عَلَيْكُمْ ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ
قال : تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر .
قال القاضي رحمه الله : يحسن في هذا القول أن يكون { نزل } خبر قوله { الله } حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى . وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا : إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما{[2898]} ممن ذكر السير رووا{[2899]} أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر{[2900]} ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم ، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم{[2901]} وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم الحبرات{[2902]} جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة ، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام : دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال{[2903]} وسيأتي تفسير ذلك .
وقرأ السبعة «المَ الله » بفتح الميم والألف ساقطة ، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف ، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر ، وذكرها الفراء عن عاصم ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي{[2904]} وأبو حيوة-الم- بكسر الميم للالتقاء{[2905]} وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . قال أبو علي : حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك : «من الله ومنَ المسلمين » إلى غير ذلك .
قال أبو محمد : ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته ، قاله أبو علي{[2906]} ، وقد تقدم تفسير قوله : { الحي القيوم } في آية الكرسي ، والآية هنالك إخبار لجميع الناس ، وكررت هنا إخباراً بحجج{[2907]} هؤلاء النصارى ، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محالة إذ من البين أنه ليس بقيوم ، وقرأ جمهور القراء «القيوم » وزنه فيعول ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس «القيام » وزنه - فيعال - وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ «القيم » وزنه فيعل ، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده ، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه .
ابتُدِىء الكلام بمسند إليه خَبرُه فِعْلِيُّ : لإفادة تقوية الخبر اهتماماً به .
وجيء بالاسم العلَم : لتربية المهابة عند سماعه ، ثم أردف بجملة { لا إله إلاّ هو } ، جملةً معترضة أو حاليةً ، ردّاً على المشركين ، وعلى النصارى خاصة . وأتبع بالوصفين { الحيّ القيوم } لنفي اللبس عن مسمَّى هذا الاسم ، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلاهية ، وأنّ غيره لا يستأهلها ؛ لأنّه غير حيّ أوْ غير قَيُّوم ، فالأصنام لا حياة لها ، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت ، فما هو الآن بقيوُّم ولا هو في حال حياته بقيّوم على تدبير العالم ، وكيف وقد أوذِيَ في الله ، وكُذّب ، واختفّى من أعدائه . وقد مضى القول في معنى { الحيّ القيّوم } في تفسير آية الكرسي .