وكلها تستهدف غاية واحدة : ( هدى للناس ) . . وهذا الكتاب الجديد " فرقان " بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة ، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية [ التي رأينا نموذجا منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت . و . آرنولد في كتاب " الدعوة إلى الإسلام " ] .
وهي تقرر - ضمنا - أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة . فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها . وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة . ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر . وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله ، يضم جناحيه على " الحق " الذي تضم جوانحها عليه . وقد نزله من يملك تنزيل الكتب . . فهو منزل من الجهة التي لها " الحق " في وضع منهاج الحياة للبشر ، وبناء تصوراتهم الاعتقادية ، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله .
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله ، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه . . والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه . . وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل ، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد - وهو فرقان واضح مبين - هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر ، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد . .
وقوله تعالى : { من قبل } يعني من قبل القرآن{[2926]} ، وقوله : { هدى للناس } معناه دعاء ، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع ، لأنهم المدعوون بهما لا غير ، وإن أراد أنهما { هدى } في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره ، منصوب{[2927]} لمن اهتدى به ، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر .
قال القاضي رحمه الله : وقال هنا { للناس } ، وقال في القرآن { هدى للمتقين } ، وذلك{[2928]} عندي ، لأن هذا خبر مجرد ، وقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ، ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس ، فسمي { هدى } لذلك ، وقال ابن فورك{[2929]} : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، و { الفرقان } : القرآن ، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال محمد بن جعفر ، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة والربيع وغيرهما ، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ونحوه ، و { الفرقان } يعم هذا كله ، وقال بعض المفسرين ، { الفرقان } هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب ، ثم توعد{[2930]} تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد ، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة ، وعذاب الآخرة بالنار ، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران ، وقال النقاش : إلى اليهود ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم{[2931]} ، و { عزيز } ، معناه غالب ، وقد ذل له كل شيء ، والنقمة والانتقام ، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك .
{ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان }
{ مِنْ قَبْلُ } يتعلّق { بأنْزَلَ } ، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل ، و « هُدَى » حال ثانية . والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويٌّ مَعْنًى ، كما اقتضاه بناء قبل على الضم ، والتقدير من قبل هذا الزمان ، وهو زمان نزول القرآن .
وتقديم { مِنْ قبلُ } على { هدَى للناس } للاهتمام به .
وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن . وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن ، الذي هو تمام مراد الله من البشر { إنّ الدينَ عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] فالهدى الذي سبقه غير تام .
و{ للناس } تعريفه إمّا للعهد : وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين ، وإمّا للاستغراق العُرفي : فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي ، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام ، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه .
والفرقان في الأصل مصدر فرَق كالشُكران والكُفران والبُهتان ، ثم أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وهو يوم بدر . وسمّي به القرآنُ قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] والمراد بالفرقان هنا القرآن ؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل ؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة . وإعادةُ قوله : { وأنزل الفرقان } بعد قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } للاهتمام ، وليُوصَل الكلام به في قوله : { إن الذين كفروا بآيات اللَّه } [ آل عمران : 4 ] الآية أي بآياته في القرآن .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل .
وشَمل قولُه : { الذين كفروا بآيات الله } المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة ، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن ، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله ؛ لأنّه مُعجزة . وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً ؛ لأنّ الصلة تجمعهم ، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله : { لهم عذاب شديد } .
وعطف قوله : { والله عزيز ذو انتقام } على قوله : { إن الذين كفروا بآيات الله } لأنّه من تكملة هذا الاستئناف : لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم ؛ إذ هو عذابُ عزيزٍ منتقم كقوله : { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [ القمر : 42 ] .
{ والعزيز } تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 209 ) : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم . } والانتقام : العقاب على الاعتداء بغضب ، ولذلك قيل للكاره : ناقم . وجيء في هذا الوصف بكلمة ( ذو ) الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق .