ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم ، فينذرهم ويبين لهم ، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوما إلا بعد الرسالة ، وبعد الإعذار لهم بالتبيين . وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول :
( ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) . .
ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله . وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة ، وفي صور شتى متنوعة . .
إنه يقال للرسول [ ص ] إن أمر هذه العقيدة ، وأمر القوم الذين يخاطبون بها . كله لله ، وأن ليس لك من الأمر شيء . دورك فيها هو البلاغ ، أما ما وراء ذلك فكله لله . وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك ، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم ، وما ينزله بهم من جزاء . . هذا له وحده سبحانه ! اما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ . . ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله . . ذلك كي يعلم العبيد مجالهم ، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ، ومهما تعرضوا فيها للعذاب ! !
قوله تعالى : { ولكل أمة رسول } ، إخبار مثل قوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى } {[6130]} وقال مجاهد وغيره : المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك «القضاء بينهم بالقسط »{[6131]} وقيل : المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا من حتم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم ، فذلك قضاء بينهم بالقسط ، وقرن بعض المتأولين هذه الآية بقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[6132]} وذلك يتفق إما بأن نجعل { معذبين } [ الاسراء : 15 ] في الآخرة ، وإما بأن نجعل «القضاء بينهم » في الدنيا بحيث يصح اشتباه الآيتين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} يعني بالحق، وهو العدل،
{وهم لا يظلمون} وذلك أن الله بعث الرسل إلى أممهم يدعون إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام والأوثان، فمن أجابهم إلى ذلك أثابه الله الجنة، ومن أبى جعل ثوابه النار.
فذلك قوله: {قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} وذلك عند وقت العذاب.
{وهم لا يظلمون}، يعني وهم لا ينقصون من محاسنهم، ولا يزادون على مساوئهم ما لم يعلموها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولكلّ أمة خلت قبلكم أيها الناس رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدا إليكم يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته. "فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ "يعني في الآخرة...
وقوله: "قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ" يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل، "وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" من جزاء أعمالهم شيئا، ولكن يجازي المحسن بإحسانه والمسيء من أهل الإيمان إما أن يعاقبه الله وإما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النار فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدل لا ظلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي لكل أمة في ما خلا رسول الله بعث إليهم؛ لست أنا أول رسول بعث إليكم، كقوله: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) [الأحقاف: 9].
وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي يُقضى بينهم بالقسط، يحتمل هذا وجهين: يحتمل: (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي يقضى بين الرسل وبين الأمم بالعدل؛ بما كان من الرسل من تبليغ الرسالة إليهم والدعاء إلى دين الله، ومن الأمم من التكذيب للرسل والرد للآيات؛ قضي بينهم بالعدل (وهم لا يظلمون) لا يزاد على ما كان، ولا ينقص.
ويحتمل قوله: (قضي بينهم) أي يهلك المكذبون منهم، وينجي من صدقهم كقوله تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) الآية [يونس: 103].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وقوله "فاذا جاء رسولهم "يعني يوم القيامة -في قول مجاهد- وقال الحسن: في الدنيا، بما أذن الله تعالى من الدعاء عليهم. وقوله "قضي بينهم" معناه فصل بينهم الأمر على الحتم، والله تعالى يقضي بين الخصوم أي يفصل بينهم فصلا لا يرد، "بالقسط" يعني: بالعدل. والمقسط: العادل. والقاسط: الجائر... والأصل واحد، والمقسط: العادل إلى الحق، والقاسط: العادل عن الحق. وقوله "وهم لا يظلمون" إنما نفى عنهم الظلم بعد أن وصف أنه يقضي بينم بالعدل ليكون العدل في جميع الأحوال من الابتداء إلى الانتهاء، لأنه كان يمكن أن يكون العدل في أوله والظلم في آخره، فنفي بذلك نفيا عاما ليخلص العدل في كل أحوالهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يُخْلِ زمانا مِنْ شَرعٍ، ولم يُخْلِ شرعاً مِنْ حُكْم، ولم يُخْلِ حُكْماً مما يُعْقُبُه من ثواب وعقاب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَإِذَا جَاء} هم {رَسُولَهُمْ} بالبينات فكذبوه، ولم يتبعوه {قُضِي بَيْنَهُمْ} أي بين النبيّ ومكذّبيه {بالقسط}: بالعدل، فأنجي الرسول وعذّب المكذّبون، كقوله؛ {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى: {وَجِيء بالنبيين والشهداء وَقُضِي بَيْنَهُمْ بالحق} [الزمر: 69].
المسألة الثالثة: المراد من الآية أحد أمرين: إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلا ولا يكون ظلما، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة، وبان الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة، وإنطاق الجوارح، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم، فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال. والمراد منه المبالغة في إظهار العدل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة. وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق" فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] إلى يوم الدين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صلى الله عليه وسلم واحدةً منهما، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء، وجعل الأمر منوطاً بالقسط، ففي أي دار أحكم جعله فيها، فقال تعالى: دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا، فلا تغتر بما يقال من غير هذا: {ولكل أمة} أي من الأمم التي خلت قبلك {رسول} يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال: {فإذا جاء} أي إليهم {رسولهم} في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق {قضي بينهم} أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر، قال} بالقسط {أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام، قال: {وهم لا يظلمون} أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولاً فإرسالُه أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مرادَ الله منهم فإن أطاعوه رضي الله عنهم وربحوا، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختم هذا الربع بتذكير ما بعده تذكير، وتحذير ما فوقه تحذير، فحواه أن كل أمة ستعرض أمام الله بمحضر رسولها، ليكون شاهدا لها بما بلغ من رسالة، وشاهدا عليها فيما قامت به حيال تلك الرسالة، من طاعة أو عصيان، وتطبيق أو نسيان، وذلك قوله تعالى: {ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}.