في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ} (46)

41

ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة .

( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة . وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . .

فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل ، ليكون منهج حياة ، وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونورا ، وهدى وموعظة . . ولكن لمن ؟ . . ( للمتقين ) . فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة ، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور ؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب الجاسية الغليظة الصلده ، فلا تبلغ إليها الموعظة ؛ ولا تجد في الكلمات معانيها ؛ ولا تجد في التوجيهات روحها ؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها ؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود ، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة ، وإن الهدى موجود ، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة ، وإن الموعظة موجودة ، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ} (46)

{ قفينا } تشبيه كأن مجيء عيسى كان من قفاء مجيء النبيين وذهابهم ، والضمير في { آثارهم } للنبيين المذكورين في قوله : { يحكم بها النبيون } [ المائدة : 44 ] و { مصدقاً } حال مؤكدة و { التوراة } بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة ، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع ، و { الإنجيل } اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر ، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الأنجيل » بفتح الهمزة ، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران . و «الهدى » الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه . و «النور » ما فيه مما يستضاء به . و { مصدقاً } حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال . وقال مكي وغيره : { مصدقاً } معطوف على الأول .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني . وقرأ الناس «وهدىً وموعظةً » بالنصب . وذلك عطف على { مصدقاً } وقرأ الضحاك «وهدى وموعظةٌ » بالرفع وذلك متجه . وخص «المتقين » بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ} (46)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عن أهل الإنجيل، فقال: {وقفينا على آثارهم}: وبعثنا من بعدهم، يعني من بعد أهل التوراة، {بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة}، يقول: عيسى يصدق بالتوراة، {وآتيناه الإنجيل}: أعطينا عيسى الإنجيل، {فيه هدى} من الضلالة، {ونور} من الظلمة، {ومصدقا لما بين يديه من التوراة}، يقول: الإنجيل يصدق التوراة، {و} الإنجيل {وهدى} من الضلالة، {وموعظة} من الجهل، {للمتقين} [آية:46] الشرك.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وقَفّيْنا على آثارِهِمْ": أتبعنا، يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد، فبعثناه نبيا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنه حقّ وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرض واجب. "وآتَيْناهُ الإنجيلَ": وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه الإنجيل.

"فِيهِ هُدًى وَنُورٌ": في الإنجيل "هدى"، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه، "وَنُورٌ": وضياء من عمي الجهالة، "وَمُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ "يقول: أوحينا إليه ذلك، وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أنزل إلى نبيها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب من تحليل ما حلل وتحريم ما حرّم.

"وَهُدًى وَمَوْعِظَةً "يقول: أنزلنا الإنجيل إلى عيسى مصّدقا للكتب التي قبله، وبيانا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين في زمان عيسى "وموعظة" لهم، يقول: وزجرا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، وتنبيها لهم عليه. والمتقون: هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم وحَذِروه بترك ما نهاهم عن فعله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وهاهنا سؤالات:

السؤال الأول: أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقا لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن كذلك، فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام، فلذلك قال في آخر هذه الآية {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين؟ والجواب: معنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله، وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ. السؤال الثاني: لم كرر قوله {مصدقا لما بين يديه} والجواب: ليس فيه تكرار لأن في الأول: أن المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني: الإنجيل يصدق التوراة. السؤال الثالث: أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال: {فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} وفيه مباحثات ثلاثة: أحدها: ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة: وثانيها: لم ذكر الهدى مرتين؟، وثالثها: لم خصصه بكونه موعظة للمتقين؟ والجواب على الأول: أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدى، وأما كونه نورا، فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف، وأما كونه مصدقا لما بين يديه، فيمكن حمله على كونه مبشرا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبمقدمه وأما كونه هدى مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير، وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله {هدى للمتقين}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت هذه الآيات كلها -مع ما فيها من الأسرار- ناقضة أيضاً لما ادعوا من البنوة بما ارتكبوه من الذنوب من تحريف كلام الله وسماع الكذب وأكل السحت والإعراض عن أحكام التوراة والحكم بغير حكم الله، أتبعها ما أتى به عيسى عليه السلام الذي ادعى فيه النصارى البنوة الحقيقية والشركة في الإلهية، وقد أتى بتصديق التوراة في الشهادة على من خالفها من اليهود بالتبرؤ من الله، مؤكداً لما فيها من التوحيد الذي هو عماد الدين وأعظم آياتها التي أخذت عليهم بها العهود ووضعت في تابوت الشهادة الذي كانوا يقدمونه أمامهم في الحروب، فإن كانوا باقين على ما فيه من الميثاق نصروا وإلا خذلوا، وناسخاً لشريعتهم مجازاة لهم من جنس ما كانوا يعملون من التحريف، وشاهداً على من أطراه بالضلال فقال: {وقفينا} إلى آخرها، وكذا كل ما بعدها من آياتهم إلى آخر السورة، لا تخلوا آية منها من التعرض إلى نقض دعواهم لها بذكر ذنب، أو ذكر عقوبة عليه، أو ذكر تكذيب لهم من كتابهم أو نبيهم، والمعنى: أوجدنا التقفية، وهي اتباع شيء بشيء تقدِّمه، فيكون أتيا في قفاه لكونه وراءه، وإلقاؤه في مظهر العظمة لتعظيم شأن عيسى عليه السلام {على آثارهم} أي النبيين الذين يحكمون بالتوراة، وذكر الأثر يدل على أنهم كانوا قد تركوا دينهم، لم يبق منه إلا رسم خفي {بعيسى} ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا والد له تكذيباً لليهود، وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى، فقال: {ابن مريم مصدقاً} أي عيسى عليه السلام في الأصول وكثير من الفروع و {لما بين يديه} أي مما أتى به موسى عليه السلام قبله {من التوراة} وأشار إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها بقوله: {وآتيناه الإنجيل} أي أنزلناه بعظمتنا عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام.

ولما كان في الإنجيل المحكم الذي يفهمه كل أحد، والمتشابه الذي لا يفهمه إلا الأفراد من خلص العباد، ولا يقف بَعدَ فهمه عند حدوده إلا المتقون، قال مبيناً لحاله: {فيه} أي آتيناه إياه بحكمتنا وعظمتنا كائناً فيه {هدى} أي وهو المحكم، يهتدي به كل أحد سمعه إلى صراط مستقيم {ونور} أي حسن بيان كاشف للمشكلات، لا يدع بذلك الصراط لبساً.

ولما كان الناسخ للشيء بتغيير حكمه قد يكون مكذباً له، أعلم أنه ليس كذلك، بل هو مع النسخ للتوراة مصدق لها فقال -أي مبيناً لحال الإنجيل عطفاً على محل {فيه هدى}: {ومصدقاً} أي الإنجيل بكماله {لما بين يديه} ولما كان الذي نزل قبله كثيراً، عين المراد بقوله: {من التوراة} فالأول صفة لعيسى عليه السلام، والثاني صفة لكتابه، بمعنى أنه هو والتوراة والإنجيل متصادقون، فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما، لم يتخالفوا في شيء، بل هو متخلق بجميع ما أتى به.

ولما كان المتقون خلاصة الخلق، فهم الذين يُنزلون كل ما في كتب الله من محكم ومتشابه على ما يتحقق به أنه هدى ويتطابق به المتشابه والمحكم، وكان قد بين أن فيه من الهدى ما يسهل به رد المتشابه إليه فصار بعد البيان كله هدى، قال معمماً بعد ذلك التخصيص: {وهدى وموعظة للمتقين} أي كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به وينتقلون مترقين من حال عالية إلى حال أعلى منها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة.

(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدقا لما بين يديه من التوراة. وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)..

فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل، ليكون منهج حياة، وشريعة حكم.. ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة. وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة، فاعتمد شريعتها -فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة.. وجعل الله فيه هدى ونورا، وهدى وموعظة.. ولكن لمن؟.. (للمتقين). فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور.. أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب.. إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام الّتي كتبها الله عليهم، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التّوراة: أحدهما: ما حرّفوه وتردّدوا فيه بعد أن حرّفوه فشكّوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرّسول؛ وثانيهما: ما حرّفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرّجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص. وهذا نوع ثالث: وهو إعراضهم عن حكم الله بالكليّة، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام.

والتقفية مصدر قفّاه إذا جعله يَقفوه، أي يأتي بعده...

و {مصدّقاً} حال أيضاً من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله {بعيسى ابن مريم مصدّقاً} لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التّصديق؛ فتصديق عيسى التّوراةَ أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديق حقيقي؛ وتصديق الإنجيل التّوراة اشتماله على ما وافق أحكامَها فهو تصديق مجازي. وهذا التّصديق لا ينافي أنّه نَسخَ بعض أحكام التّوراة كما حكى الله عنه {ولأحِلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم} [آل عمران: 50]، لأنّ الفعل المثبَت لا عموم له.

والموعظة: الكلام الّذي يلِين القلب ويَزجر عن فعل المنهيات.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التّوراة...) ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر وهو أنّ عيسى المسيح (عليه السلام) قد أقرّ بحقيقة كلّ ما نزل في التّوراة على النّبي موسى (عليه السلام) كإقرار جميع الأنبياء (عليهم السلام) بنبوة من سبقوهم من الأنبياء، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام. ثمّ تشير الآية الكريمة إلى إنزال الإِنجيل على المسيح (عليه السلام) وفيه الهداية والنّور فتقول: (وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور) وقد أطلق اسم النّور في القرآن المجيد على التّوراة والإِنجيل والقرآن نفسه، حيث نقرأ بشأن التّوراة قوله تعالى: (إِنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور). وأمّا الإِنجيل فقد أُطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النّور. والقرآن أيضاً حيث نقرأ قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين). فكما أنّ النّور يعتبر في الحقيقة ضرورة حتمية لجميع الموجودات من أجل أن تواصل حياتها، كذلك تكون الأديان الإِلهية والشرائع والكتب السماوية ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإِنسان. وقد ثبت من حيث المبدأ أنّ مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل أنواع الجمال هو النّور، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وإرشاداتهم، فلولاها لساد الظلام كل القيم الإِنسانية سواء الفردية منها أو الاجتماعية، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المادية بكل وضوح. لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أنّ التّوراة والإِنجيل هما كتابان سماويان، ومع أن هذين الكتابين دون شك منزلان في الأصل من قبل الله سبحانه وتعالى، لكنّهما بالتأكيد قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إلى التحريف، فحذفت منهما حقائق وأضيفت إِليهما خرافات، وأدى ذلك إلى أن يفقدا قيمتهما الحقيقية، أو أنّ الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب أُخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية. وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة النّور التي أُطلقت في القرآن الكريم على هذين الكتابين، إِنما عنت التّوراة والإِنجيل الأصليين الحقيقيين. بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسى (عليه السلام) لم يكن وحده الذي أيد وصدق التّوراة، بل أن الإِنجيل الكتاب السماوي الذي نزل عليه هو الآخر شهد بصدق التّوراة حيث تقول الآية: (مصدقاً لما بين يديه من التّوراة...). وفي الختام تؤكّد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: (وهدى وموعظة للمتقين). وتشبه هذه العبارة، عبارة أُخرى وردت في بداية سورة البقرة، حين كان الحديث يدور عن القرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: (هدى للمتقين). إِن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين، والمراد بالمتقين هم أُولئك الذين يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق، وبديهي أن الذين يغلقون أبواب قلوبهم إصرارا وعناداً بوجه الحق، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبداً. والملفت للنظر في هذه الآية أيضاً، أنّها ذكرت أوّلا أنّ الإِنجيل (فيه هدى) ثمّ كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة، وقد يكون المراد من هذا الاختلاف في التعبير هو بيان أنّ الإِنجيل والكتب السماوية الأُخرى تشتمل على دلائل الهداية للناس جميعاً بصورة عامّة، ولكنّها بصورة خاصّة تكون باعثاً لهداية وتربية وتكامل الأتقياء من النّاس الذين يتفكرون فيها بعمق وتدبر.