( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون . ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون . قالوا : يا ويلنا ! من بعثنا من مرقدنا ? هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) . .
يسأل المكذبون : ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) . . فيكون الجواب مشهداً خاطفاً سريعاً . . صيحة تصعق كل حي ، وتنتهي بها الحياة والأحياء :
( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) . .
فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة ، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حساباً .
{ ما ينظرون } :ما ينتظرون . { إلا صيحة واحدة } هي النفخة الأولى . { تأخذهم وهم يخصمون } : يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله : { أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون } وأصله يختصمون فسكنت التاء أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين ، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع ، وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه ، وأبو عمرو وقالون به مع الاختلاس وعن نافع الفتح فيه والإسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما ، وقرأ حمزة { يخصمون } من خصمه إذا جادله .
و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { ما } نافية ، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[9790]} ، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم ، فما لها من فواق ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن القسطنطين المكي «يَخَصِّمون » بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة ، وأصلها يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد ، وقرأ نافع وأبو عمرو أيضاً «يَخْصِّمون » بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي ، وأصلها يختصمون حذفت حركة التاء دون نقل ثم أدغمت في الصاد ، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضاً والحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «يَخِصِّمون » بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون عللت كالتي قبلها ، ثم كسرت للالتقاء ، وقرأت فرقة «يِخِصِّمون » بكسر الياء والخاء وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء ، وفي مصحف أبي بن كعب «يختصمون » ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ويتدافعون في شؤونهم ، وقرأ حمزة «يخصمون » وهذه تحتمل معنيين أحدهما المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضاً في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق في زعمهم وظنهم ، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا أو غلبوا ، لأنك تقول : خاصمت فلاناً فخصمته إذا غلبته .
وفعل { يَنظُرُونَ } مشتق من النَّظِرة وهو الترقب ، وتقدم في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في سورة } [ الأنعام : 158 ] .
والصيحة : الصوت الشديد الخارج من حلق الإِنسان لزجر ، أو استغاثة . وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود : { فأخذتهم الصيحة } [ الحجر : 73 ] . فالصيحة هنا تحتمل المجاز ، أي ما ينتظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة . والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم ، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية ، فيكون أسلوب الكلام خارجاً على الأسلوب الحكيم إعراضاً عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حَقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه .
ومعنى { تأخُذُهُم } تُهلكهم فجأة ، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المُغِيرين على الحيّ لأخذ أنعامه وسَبْي نِسائه ، فأطلق على ذلك الحلوللِ فعل { تأخُذُهُم } كقوله تعالى : { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } [ الحاقة : 10 ] أي تحلّ بهم وهم يختصمون . وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها .
ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين ، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل ، فيكون إنذاراً بعذاب الدنيا . ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعَرّض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر .
و { يَخصّمُونَ } من الخصومة والخصام وهو الجدال ، وتقدم في قوله : { ولا تكن للخائنين خصيماً } في سورة النساء } ( 105 ) ، وقوله : { هذان خصمان } في سورة الحج } ( 19 ) . وأصله : يختصمون فوقع إبدالُ التاء ضاداً لقرب مخرجيهما طلباً للتخفيف بالإِدغام .
واختلَف القراء في كيفية النطق بها ، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك : فقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وأبو عمرو في رواية عنه { يَخصّمُونَ } بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صاداً والمسَكَّنةُ لأجل الإِدغام ، ألقيت حركتُها على الخاء التي كانت ساكنة . وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكوناً مختلَساً ( بالفتح ) لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشدّدة .
وقرأه عاصم والكسائي وابنُ ذكوان عن ابن عامر ويعقوبُ وخلف { يَخصّمُونَ } بكسر الخاء وكسر الصاد مشدّدة . وقرأه حمزة { يخْصِمون } بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع ( خَصم ) قيل بمعنى جادل . وقرأ أبو جعفر { يخْصِّمون } بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين .
والاختصام : اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حلّ بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير . وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { وهُمْ يَخصّمُونَ } لإِفادة تقوّي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم .
وفرع على { تأخُذُهُمْ } جملة { فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً } أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحْتضَر ، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله : { فَلا يَسْتَطِيعونَ توصِيَةً } كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم ، إذ لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك يأتي على جميع الناس .
وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى : أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر ، أو إلى ترقب وصول جيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يُوصُونه بأهليهم .
والتوصية : مصدر وَصَّى المضاعف وتنكيرها للتقليل ، أي لا يستطيعون توصية ما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.