ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا )ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال ، وثاب إلى حمى الله ، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة . ( وكان الله غفورا رحيما ) . .
{ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة . وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا . { وكان الله غفورا رحيما } فلذلك يعفو عن السيئات ويثبت على الحسنات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {إلا من تاب} من الشرك {وآمن} يعني: وصدق بتوحيد الله عز وجل {وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله} يعني: يحول الله عز وجل {سيئاتهم حسنات} والتبديل من العمل السيئ إلى العمل الصالح.
{وكان الله غفورا} لما كان في الشرك {رحيما}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... [عن] ابن عباس، فقال: أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله "وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا "فقال المشركون: فما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وأتينا الفواحش، قال: فأنزل الله "إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا"... إلى آخر الآية، قال: وأما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قتل، فلا توبة له. وقوله: "إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) يقول تعالى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه يلق أثاما (إِلا مَنْ تَابَ) يقول: إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك، وإنابته إلى ما يرضاه الله "وَآمَنَ "يقول: وصدّق بما جاء به محمد نبيّ الله "وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا" يقول: وعمل بما آمره الله من الأعمال، وانتهى عما نهاه الله عنه..
قوله: "فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ". اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدله بالشرك إيمانا، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به، وبالزنا عفة وإحصانا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة...
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم: أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى، وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا.
وقوله: "وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" يقول تعالى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يوفقهم الله إذا تابوا، وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة، فذلك معنى تبديل الله سيئاتهم حسنات، أي يوفقهم على ذلك.
والثاني: {يبدل الله سيئاتهم حسنات} في الآخرة لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وكان الله غفورا رحيما" أي ساترا لمعاصي عباده إذا تابوا منها، منعما عليهم بالثواب والتفضل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيئات حسنات؟
قلت: إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات: الإيمان، والطاعة، والتقوى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ [عَمَلا] صَالِحًا} أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إِلا مَنْ تَابَ} في الدنيا إلى الله من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه.
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال [الله] تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. وقد ثبتت السنة الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، وقبل منه، وغير ذلك من الأحاديث.
{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: في معنى قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان:
أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات...
وقال سعيد بن جبير: أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما. وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.
والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى -وهذا سياق الحديث- قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم -لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا- فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة. فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا". قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وانفرد به مسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم سبحانه تهديد الفجار، على هذه الأوزار، أتبعه ترغيب الأبرار، في الإقبال على الله العزيز الغفار، فقال: {إلا من تاب} أي رجع إلى الله عن شيء مما كان فيه من هذه النقائص {وآمن} أي أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدونه وهو الإيمان، أو أكد وجوده {وعمل}. ولما كان الرجوع عنه أغلظ، أكد فقال: {عملاً صالحاً} أي مؤسساً على أساس الإيمان؛ ثم زاد في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه فقال: {فأولئك} أي العالو المنزلة {يبدل الله} وذكر الاسم الأعظم تعظيماً للأمر وإشارة إلى أنه سبحانه لا منازع له {سيئاتهم حسنات} أي بندمهم على تلك السيئات، لكونها ما كانت حسنات فيكتب لهم ثوابها بعزمهم الصادق على فعلها لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا، بحيث إذا رأى أحدهم تبديل سيئاته بالحسنات تمنى لو كانت سيئاته أكثر! وورد أن بعضهم يقول: رب! إن لي سيئات ما رأيتها -رواه مسلم في أواخر الإيمان من صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه رفعه.
ولما كان هذا أمراً لم تجر العادة بمثله، أخبر أنه صفته تعالى أزلاً وأبداً، فقال مكرراً للاسم الأعظم لئلا يقيد غفرانه شيء مما مضى: {وكان الله} أي الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق {غفوراً} أي ستوراً لذنوب كل من تاب بهذا الشرط {رحيماً} له بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
المعنى: يستثنى من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا، من رجع إلى الله عن الشرك، وقتل النفس، والزنا بالتوبة الصادقة، وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقلبهم الله مكان سيآتهم حسنات، وكان الله غفورا يتجاوز عن ذنوب عباده؛ فقد تجاوز عما كبن منهم من شرك أو قتل، أو زنا. رحيما منعما على عباده، فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيآتهم.
ترتيب وتوجيه: يكون العاصي في غمرات معصيته، فإذا ذكر الله، ووفقه اله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته، فإذا استشعر قلبه اليقين، واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية، والإقبال على الطاعة؛ فإذا كان صادقا في هذا العزم، فلابد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة، والثانية فذكر الإيمان، والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد واقتداء: روى الأئمة عن كعب بن مالك – رضي اله عنه – أحد الثلاثة الذين خلفوا. وأنه لما جلس يدي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد ما تاب الله عليه، قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي إلى الله، وإلى رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم -. فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -:"أمسك بعض مالك فهو خير لك. قال فقلت: فإنني أمسك سهمي الذي بخيبر". فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلا على صدق ثوبته، كما اقتضته الآية فتأيد بفهمه ما قدمنا، وكان خير قدوة للتائبين. وجوه التبديل: لما كانت السيئة حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة. وهذا على وجوه: أولها: محو السيئات الماضية بالتوبة، وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم. وثانيها: تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، حتى صار يعمل الصالحات بعدما كان يعمل السيئات. و ثالثهما: أن نفسه كانت بالمعصية مظلمة شريرة فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة. فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس...
ترهيب: ما أعظم هذا الذنب وما أكبره!! ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبه، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر. ولعظم شأن الدماء؛ كانت أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين الخلق. فإياك أيها الأخ أن تلقى اله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلما ولو بكلمة، فإن الأمر صعب، والموقف خطير!!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لكن القرآن المجيد كما مر سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي الآية التالية يقول تعالى هكذا: (إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأُولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً). كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الاستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.
المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله «سيئات» أولئك «حسنات»؟ تبديل السيئات حسنات: هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً: 1 حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والانقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضي، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.
-أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات...
-التّفسير الثّالث: هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات. ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعاً، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.