( ولله ما في السماوات وما في الأرض . ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) . .
وهذا التقرير لملكية الله - وحده - لما في السماوات وما في الأرض ، يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا . فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده ، فهو القادر على الجزاء ، المختص به ، المالك لأسبابه . ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل : ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . .
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا . { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء ، وهو بمثله دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء ، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى .
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }
الحسنى : المثوبة الحسنى ، والحسنى مؤنث الأحسن .
31- { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } .
لله وحده ملك هذا الكون ، وله سبحانه كل ما في السماوات والأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، ليس لأحد من ذلك شيء ، والمالك المتصرف العزيز المقتدر سيجازي المسيء بإساءته وعمله ، وسيجازي الذين أحسنوا بالجنة جزاء إحسانهم ، ثم ذكر سبحانه وتعالى صفات المتقين المحسنين .
وقوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض } أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقاً وملكاً لا لغيره عز وجل أصلاً لا استقلالاً ولا اشتراكاً ، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى : { لِيَجْزِىَ الذين أساءوا بِمَا عَمِلُواْ } أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بياناً لحاله ؛ أو بمثل ما عملوا ، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير { وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ } أي اهتدوا { بالحسنى } أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى ، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبئ عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد ، وَمِن أن يلقى كل ما يستحقه ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يلقى الحسنى جزاءاً لتبليغه وهم يلقون السوأى جزاءاً لتكذيبهم ، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين .
وجوز أن يكون معنى { فَأَعْرَضَ } [ النجم : 29 ] الخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزى كلاً ما يستحقه ، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في { بِمَن ضَلَّ } { وَبِمَن اهتدى } [ النجم : 30 ] وجعل قوله تعالى : { لِيَجْزِىَ } على هذا متعلقاً بما يدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } الخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم { لِيَجْزِىَ } الخ ، وقوله سبحانه : { وَللَّهِ مُلْكُ السموات } جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل : هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته ، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق { لِيَجْزِىَ } بقوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى السموات } كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد ، أي هو أعلم بهم وإنما سوي هذا الملك للجزاء ، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ ، وجوز في جملة { للَّهِ مَا فِى السموات } كونها حالاً من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولاً ، وفي { لِيَجْزِىَ } تعلقه بضل . واهتدى على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله ، و { بِمَنِ اهتدى } ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى ، ولا يخفى بعده ، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه : { لاَ تُغْنِى شفاعتهم } [ النجم : 26 ] كما ذكره مكي ، وقرأ زيد بن علي لنجزى ونجزى بالنون فيهما { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم } بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره .
أو بيان . أو نعت . أو منصوب على المدح . أو مرفوع على أنه خبر محذوف ؛ و { الإثم } الفعل المبطئ عن الثواب وهو الذنب . وكبائره ما يكبر عقابه ، وقرأ حمزة . والكسائي . وخلف كبير الاثم على إرادة الجنس ، أو الشرك { والفواحش } ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام ، وقيل : الفواحش والكبائر مترادفان { إِلاَّ اللمم } ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره ، ومنه لمَةُ الشعر لأنها دون الوفرة ، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة . والغمزة . والقبلة وهو من باب التمثيل ، وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وعليه قول الرماني هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع ، وقول ابن المسيب : ما خطر على القلب ، وعن ابن عباس . وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام ، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 23 ] على ما في «البحر » ، وقيل : هو مطلق الذنب .
/ وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب ، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع ، وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلاً ، و { إِلا } صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الاثم في حكم النكرة ، أو لأن غير و { إِلا } التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في { غَيْرِ المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع { إِلا } صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا ، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب ، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك ، وتبعه أكثر المتأخرين ، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه ، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا : سائر المعاصي كبائر ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ، والقاضي أبو بكر البلاقلاني ، وإمام الحرمين في «الإرشاد » ، وتقي الدين السبكي . وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة . واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وحكى الانقسام عند المعتزلة ، وقال : إنه ليس بصحيح ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة ، والجمهور على الانقسام قيل : ولا خلاف في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى عظمة الله عز وجل وشدة عقابه سبحانه وإجلالاً له جل شأنه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أيّ كبيرة ، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم ؛ وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع ، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل : هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء ، وقيل : كل معصية أوجبت الحدّ وبه قال البغوي .
وغيره والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي : إنهم إلى ترجيحه أميل ، وقد يقال : يرد على الأول أيضاً أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد .
وقيل : هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فوراً والكذب في الشهادة والرواية واليمين ، زاد الهروي . وشريح وكل قول خالف الإجماع العام ، وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين ، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط ، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة ، والإمام كما قال الأذرعي إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط ، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين ، وقيل : هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه ، وقيل : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة ، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه . أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة . فالقبلة . واللمس . والمفاخذة صغيرة ، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي ، وقيل : هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء ، أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، ومال اليتيم ، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر ، وقيل : إنها كل ذنب قرن به حدّ ، أو وعيد .
أو لعن بنص كتاب . أو سنة . أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك . أو أكثر . أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعاراً صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوماً فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظاناً أنه زنا بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال : هو التحقيق ؛ وقيل : غير ذلك ، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ، ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم . والصلاة الوسطى . وليلة القدر . وساعة الإجابة ، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي : كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه ؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] .
وقيل : هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه . وعطاء . وعبيد بن عمير ، واستدل له بما في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات . الإشراك بالله تعالى . والسحر . وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق . وأكل مال اليتيم . وأكل الربا . والتولي يوم الزحف . وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : أربع ، وعن ابن مسعود ثلاث ، وفي رواية أخرى عشرة ، وقال شيخ الإسلام العلائي : المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون ، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك ، وقال أبو طالب المكي : هي سبع عشرة أربع في القلب . الشرك . والإصرار على المعصية . والقنوط . والأمن من المكر ، وأربع في اللسان . القذف . وشهادة الزور . والسحر ، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئاً من أعضائه . واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقاً أو تثبت بها باطلاً ، وثلاث في البطن . أكل مال اليتيم ظلماً . وأكل الربا . وشرب كل مسكر ، واثنان في الفرج . الزنا . واللواط ، واثنتان في اليد القتل . والسرقة ، وواحدة في الرجل . الفرار من الزحف ، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين ، وفيه ما فيه ، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلاً قال له : كم الكبائر سبع هي ؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء ، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع ، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية ، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذٍ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل ، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي { واسع المغفرة } لهم ليس بشيء كما لا يخفى .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } أي بأحوالكم من كل أحد { إِذْ أَنشَأَكُمْ } في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام .
/ { مّنَ الأرض } إنشاءاً إجمالياً حسبما مر تحقيقه ، وقيل : إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض ، وأياً مّا كان فإذا ظرف لأعلم وهو على بابه من التفضيل .
وقال مكي : هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه ، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه ، وقيل : { إِذْ } منصوب بمحذوف ، والتقدير اذكروا { إِذْ أَنشَأَكُمْ } وهو كما ترى { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } ووقت كونكم أجنة { في بُطُونِ أمهاتكم } على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله ، فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر { فِى بُطُونِ أمهاتكم } مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه ، وقيل : لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة ، والفاء في قوله تعالى : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } المعاصي جميعاً وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في «الإرشاد » ، وقيل : اتقى الشرك ، وقيل : اتقى شيئاً من المعاصي ، والآية نزلت على ما قيل : في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب ، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم ، ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر ، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة ، أخرج أحمد .
ومسلم . وأبو داود . وابن مردويه . وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب » وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش ، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار ، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى جابر : «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة » محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم ، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الإشعار قوياً كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملاً فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن ، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها : عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة كذا قيل ، والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع ، وقيل : معنى لا تزكوا أنفسكم لا يزكى بعضكم بعضاً ، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة ، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود .
أخرج الواحدي . وابن المنذر . وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا : هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها » فأنزل الله سبحانه عند ذلك { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } الآية .
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } : أي خلقاً وملكاً وتصرفاً .
{ ليجزى الذين أساءوا بما عملوا } : ليعاقب الذين أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي .
{ ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } : ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالجنة .
ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى : { فلله الآخرة والأولى } وهنا قال عز من قائل { ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى { ليجزي الذين أساءوا } أي إلى أنفسهم بما عملوا من الشرك والمعاصي يجزيهم بالسوء وهي جهنم { ويجزى الذين أحسنوا } إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإِيمان والعمل الصالح يجزيهم بالحسنى التي هي الجنة .
- تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإِلوهيته .
- تقرير حرية إرادة الله يهدى من يشاء ويضل ويعذب نم شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية .
{ 31-32 } { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }
يخبر تعالى أنه مالك الملك ، المتفرد بملك الدنيا والآخرة ، وأن جميع من في السماوات والأرض ملك لله ، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم ، في عبيده ومماليكه ، ينفذ فيهم قدره ، ويجري عليهم شرعه ، ويأمرهم وينهاهم ، ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [ عنه ] ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي ، ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر بالعقوبة البليغة{[900]} .
{ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا } في عبادة الله تعالى ، وأحسنوا إلى خلق الله ، بأنواع المنافع { بِالْحُسْنَى } أي : بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة ، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم ، والفوز بنعيم الجنة{[901]} .
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى ( 32 ) }
ولله سبحانه وتعالى ملك ما في السموات وما في الأرض ؛ ليجزي الذين أساؤوا بعقابهم على ما عملوا من السوء ، ويجزي الذي أحسنوا بالجنة ،
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى }
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } هو مالك لذلك ، ومنه الضال والمهتدي يُضل من يشاء ويهدي من يشاء { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } من الشرك وغيره { ويجزي الذين أحسنوا } بالتوحيد وغيره من الطاعات { بالحسنى } الجنة وبيَّن المحسنين بقوله .
قوله تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } فاللام في قوله : ( ليجزي ) متعلق بمعنى الآية الأولى ، لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه ، { الذين أساؤوا } أي : أشركوا : بما عملوا من الشرك ، { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } وحدوا ربهم بالحسنى بالجنة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ، ولذلك قال :{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } .
ثم بين - سبحانه - ما يدل على شمول ملكه لكل شىء فقال : { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } . أى : ولله - تعالى - وحده جميع ما فى السموات وما فى الأرض خلقا ، وملكا ، وتصرفا . . .
واللام فى قوله : { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام السابق .
أى : فعل ما فعل - سبحانه - من خلقه للسموات والأرض وما فيهما ، ليجزى يوم القيامة ، الذين اساءوا فى أعمالهم بما يستحقونه من عقاب ، وليجزى الذين أحسنوا فى أعمالهم بما يستحقونه من ثواب .
وقوله : { بالحسنى } صفة لموصوف محذوف ، أى : بالمثوبة الحسنى التى هى الجنة .
قوله تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أسائوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى 31 الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } .
الله مالك كل شيء ، وهو مالك السماوات و الأرض وخالقهما . فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسنين بإحسانهم ويجزي المسيئين بإساءاتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم، والملائكة وغيرهم عبيده وفي ملكه؛ فقال: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} في الآخرة {الذين أساءوا بما عملوا} من الشرك في الدنيا...، أنه قال في الأنعام، والنساء: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} [الأنعام:12، النساء:87] يعني لا شك في البعث أنه كائن {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} من الشرك في الدنيا {ويجزي الذين أحسنوا}... في الدنيا {بالحسنى} وهي الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلِلّهِ "مُلك "ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ" من شيء، وهو يضلّ من يشاء، وهو أعلم بهم "لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا" يقول: ليجزي الذين عَصَوْه من خلقه، فأساءوا بمعصيتهم إياه، فيثيبهم بها النار، "وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى" يقول: وليجزيَ الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة، فيثيبهم بها.
وقيل: عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان. وقوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ" يقول: الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها، وذلك الشرك بالله، وما قد بيّناه في قوله: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نَكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ".
وقوله: "وَالفَواحِشَ" وهي الزنا وما أشبهه، مما أوجب الله فيه حدّا.
وقوله: "إلاّ اللّمَمَ" اختلف أهل التأويل في معنى «إلا» في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع، وقالوا: معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم الذي ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، فإن الله قد عفا لهم عنه، فلا يؤاخذهم به... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل «إلا» في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك: لم يؤذن لهم في اللمم، وليس هو من الفواحش، ولا من كبائر الإثم، وقد يُستثنى الشيء من الشيء، وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه، إلا أن يلمّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر... عن أبي الضحى، أن ابن مسعود قال: زنى العينين: النظر، وزنى الشفتين: التقبيل، وزنى اليدين: البطش، وزنى الرجلين: المشي، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم...
وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح، ومعنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إلا أن يلمّ بها ثم يتوب...
وقال آخرون ممن وجه معنى «إلا» إلى الاستثناء المنقطع: اللمم: هو دون حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، قد تجاوز الله عنه... عن ابن عباس، قوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" قال: كلّ شيء بين الحدّين، حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، تكفّره الصلوات، وهو اللمم، وهو دون كل موجب فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخّر عقوبته إلى الآخرة...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال «إلا» بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجّه معنى الكلام إلى "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفوّ لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما" فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «العَيْنانِ تَزْنِيانِ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ، وَالرّجْلانِ تَزْنِيانِ وَيُصَدّقُ ذلكَ الفَرْجُ أوْ يُكَذّبُهُ»، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه، كما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء، ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: ضربه ما لمم القتل، يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال: وسمعت من آخر: ألمّ يفعل في معنى: كاد يفعل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} وهو غنيّ عن عبادتكم، وإنما يأمركم، ليجزيكم بأعمالكم لا لمنافع ترجع إليه.
والثاني: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} أي إنما أنشأ أهل السماوات والأرض ليمتحنهم بالأمر والنهي، ثم ليجزي الذين أساؤوا جزاء الإساءة والذين أحسنوا جزاء الإحسان. ولو كان على ما قال أولئك الكفرة: أن لا بعث، ولا جزاء، لكان خلقُهم وخلق ما ذكر عبثا باطلا. وفي الحكمة التفريق بين المُسيء والمحسن، وفي الدنيا تحقّقت التّسوية بينهما، فدلّ ذلك على دار أخرى، يُفرَّق بينهما فيها. ثم يحتمل جزاء إساءة أولئك في الدنيا والآخرة: في الدنيا القهر والدّبرة والهزيمة، وفي الآخرة النار، وجزاء المحسن في الدنيا النصر والظّفر، وفي الآخرة الجنة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولله ما في السماوات وما في الأرض} اعتراض بين الكلام بليغ، وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير، لأن تقديره: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} يضل من يشاء ويهدي من يشاء {ليجزي} والنظر الأول أقل تكلفاً من هذا الإضمار. و: {الحسنى} هي الجنة ولا حسنى دونها.
{ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى} إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول: إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء...
{ليجزي} متعلق بقوله: ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السماوات، تقديره كأنه قال: هو أعلم بمن ضل واهتدى: {ليجزي} أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء، والله أعلم به، فيصير قوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} كلاما معترضا...
وقوله تعالى في حق المسيء {بما عملوا} وفي حق المحسن {بالحسنى} فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال: لا يعذب إلا عن ذنب، وأما في الحسنى فلم يقل: بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى، وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك، وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي، وقال في أعمال المحسنين {الحسنى} إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الاسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السماوات والأراضي، فإن كل سماء في التي تليها، والأرض في السماء {وما في الأرض} وكذلك الأراضي والكل في العرش وهو ذو العرش العظيم. ولما أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وسلاه وأعلمه أن الكل في ملكه، فلو شاء لهداهم ورفع النزاع، ولكنه له في ذلك حكم تحار فيها...
. {الذين أساؤوا} بالضلال {بما عملوا} أي بسببه وبحسبه إما بواسطتك وبسيوفك وسيوف أتباعك إذا أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة {ويجزي} أي يثبت ويكرم {الذين أحسنوا} أي على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم {بالحسنى} أي الثبوت الذي هو في غاية الحسن ما بعدها غاية، فإن الحسنى تأنيث الأحسن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولله ما في السماوات وما في الأرض. ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).. وهذا التقرير لملكية الله -وحده- لما في السماوات وما في الأرض، يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا. فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده، فهو القادر على الجزاء، المختص به، المالك لأسبابه. ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل: ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله: {وما في الأرض} لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإِعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} الآية مقترناً بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر...
والباءانِ في قوله: {بما عملوا} وقوله: {بالحسنى} لتعدية فعْلي {ليجزي} و {يجزي} فما بعد الباءَيْن في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء، وقوله: {بما عملوا} حينئذٍ تقديره: بمثل ما عملوا، أي جزاء عادلاً مماثلاً لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ. وقوله: {بالحسنى} أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89]. والحسنى: صفة لموصوف محذوف يدل عليه {يجزي} وهي المثوبة بمعنى الثواب.
هذا أيضاً أسلوب قصر بتقديم الخبر. أي: لله وحده.
وفي آية أخرى قال تعالى: { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ.. } [الشورى: 49] فالسماوات والأرض عجيبة في ذاتها، والذي فيها أعجب {وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ..} [النجم: 31] وقال: { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النحل: 77].
فهذه مراحل ثلاث في مُلك الله، يملك سبحانه الظرف السماوات والأرض، ويملك المظروف أي: ما في السماوات وما في الأرض وكل منهما عجيب ويملك الأعجب من ذلك، وهو ما خفي عنا في ملكوت السماوات والأرض.
وهذا يعني أنك أيها الإنسان لا تزهد في الاستنباط، فالكون مليء بما تعلمه وما لا تعلمه من الآيات والعجائب، وفيه عطاءات لا تتناهى ولا تنفد، ما دامت السماوات والأرض، فإذا نفدت العجائب والأسرار بنفاد الدنيا جاءت عجائب وأسرار الآخرة.
ثم يُبيِّن سبحانه أن هذه الملك في السماوات والأرض يترتب عليه الجزاء في الآخرة، لأن الملك ملكُ الله، والخَلْق خَلْق الله، والرسل رسل الله، والمنهج منهج الله، فأمامك أيها الإنسان الكون الفسيح وما فيه من آيات كونية تدل على قدرة الخالق سبحانه فاستدل بالخلق على الخالق.
ثم أرسل لك الرسل وأنزل الكتب وشرَّع الشرائع وبيَّن الحلال والحرام، وبيَّن الحدود، وبيَّن الجزاء، فلا بد أنْ ينتهي مُلْك السماوات والأرض إلى الجزاء، والجزاء لا بد وأنْ يكون من جنس العمل {لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى} [النجم: 31].
والآيات ثلاث كما قلنا: آيات كونية تدل على قدرة الله، وآيات معجزات تدل على صدق الرسول في البلاغ عن الله، وآيات الأحكام التي يضمها القرآن الكريم، فمَنْ لم يعتبر بهذه الآيات ولم يحسن استقبالها فقد أساء فيُجزي بإساءته.
ومن أحسن استقبالها يُجزى بإحسانه وكأنه حيا المكلِّف سبحانه وتعالى بالطاعة فيُحييه الله بأحسن منها {وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى} [النجم: 31] أي: بالأحسن مما قدَّموا، فإذا كنا قد أمرنا في الدنيا بأنْ نرد التحية بأحسن منها، فالله أوْلى بذلك.
وتأمل هنا اللياقة في التعبير والدقة في الأداء، فلم يقُلْ: ليجزي الذين أساءوا بالسوء، ولكن {بِمَا عَمِلُواْ..} [النجم: 31] فلم يواجههم بكلمة السوء، ولكن وضع أمامهم العمل الذي قدَّموه.
وفي هذا إشارة إلى عدل الله { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [آل عمران: 117]. ثم يقدم جزاء أهل السوء على جزاء أهل الإحسان، ليكون الجزاء بالحسنى هو آخر ما يباشر أسماعنا.
ثم تشرح الآيات وتُفصِّل القول في الذين أحسنوا، ما وجوه الإحسان في أعمالهم.