وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض ، وفي الحكم بين الناس . . وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق . . يرد هذا الحق إلى أصله الكبير . أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما . أصله العريق في كيان هذا الكون كله . وهو أشمل من خلافة الأرض ، ومن الحكم بين الناس . وهو أكبر من هذه الأرض . كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا . إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة . ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة ، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا . فويل للذين كفروا من النار . أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ? أن نجعل المتقين كالفجار ? كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب . .
وهكذا : في هذه الآيات الثلاث ، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة . بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها . .
إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً ، ولم يقم على الباطل . إنما كان حقاً وقام على الحق . ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق . الحق في خلافة الأرض . والحق في الحكم بين الخلق . والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم ؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار . والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة ، التي لا يتصورها الكافرون ، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون ، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئاً . . ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . .
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي ، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ؛ وهو أمر عظيم إذن وشر كبير ، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة ، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .
{ مبارك } : أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه .
{ وليتذكر أولوا الألباب } : أي ليتعظ به أصحاب العقول الراجحة .
وقوله تعالى في الآية ( 29 ) : { كتاب أنزلناه } أي : هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا ليدبروا آياته بمعنى يتأملون ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا . وليذكّر أولوا الألباب أي وليتعظ بمواعظه وينزجر بزواجره أولو الألباب أي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبراً عرف الهدى ومن قرأه تقرباً حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكماً عدل في حكمه .
قوله تعالى : " كتاب " أي هذا كتاب " أنزلناه إليك مبارك " أي " أنزلناه إليك مبارك " يا محمد " ليدبروا " أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال . وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن ، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار . وقال الحسن : تدبر آيات الله اتباعها . وقراءة العامة " ليدبروا " . وقرأ أبو حنيفة وشيبة : " لتدبروا " بتاء وتخفيف الدال ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا " وليتذكر أولو الألباب " أي أصحاب العقول واحدها لب ، وقد جمع على ألب ، كما جمع بؤس على أبؤس ، ونعم على أنعم . قال أبو طالب : قلبي إليه مُشْرِفُ الأَلُبِّ
وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر ، قال الكميت :
إليكم ذوي آل النبي تَطَلَّعَتْ *** نوازعُ من قلبي ظِمَاءٌ وأَلبُبُ
ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل ، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً عن مبتدأ تقديره هو : { كتاب } أي له من العظمة ما لا يحاط به ، ووصفه بقوله : { أنزلناه } أي بما من العظمة { إليك } وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق ، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال : { مبارك } أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخه كتاب ولا شيء .
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة ، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال : { ليدبروا } بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء صلى الله عليه وسلم ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل ، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل ، وأما هو صلى الله عليه وسلم ففي غاية الإتعام للنظر ، والتدبر بأجلى الفكر ، من حين الإنزال ، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه { آياته } أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر ، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نتوج لا يستولدها ، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً .
ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك ، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر ، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه - والله أعلم .
ولما كان السياق للذكر ، وأسند إلى خلاصة الخلق ، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره ، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال : { وليتذكر } أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار { أولوا الألباب * } أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها ، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً ، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم }[ فصلت : 53 ] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.