في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (19)

ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك ؛ وما تخلف عنه من آثار ؛ مكررا التحذير من مثله ، مذكرا بفضل الله ورحمته ، متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة . ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة ؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض ، وإعادة الصفاء إليها والإشراق . . كما تتمثل في موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض :

( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .

والذين يرمون المحصنات - وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم - إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ؛ وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة ، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها . . بذلك تشيع الفاحشة في النفوس ، لتشيع بعد ذلك في الواقع .

من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة .

وذلك جانب من منهج التربية ، وإجراء من إجراءات الوقاية . يقوم على خبرة بالنفس البشرية ، ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها . . ومن ثم يعقب بقوله : ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . . ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها ? ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها ? ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن ، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير ?

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (19)

وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ ، فقام بذهنه منه شيء ، وتكلم به ، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه ، فقد قال تعالى{[20932]} : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح ، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي : بالحد ، وفي الآخرة بالعذاب ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ ، حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي ، عن ثَوْبَان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته " {[20933]} .


[20932]:- في ف ، أ : "قال الله تعالى".
[20933]:- المسند (5/279).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (19)

قال مجاهد وابن زيد الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين عبد الله بن أَبي ومن أشبهه ، وهي خاصة في أمر عائشة رضي الله عنها ع فحبهم شياع{[8642]} { الفاحشة } في المؤمنين متمكن على وجهه لعداوتهم في أهل الإيمان ، و «عذابهم الأليم » { في الدنيا } الحدود ، وفي { الآخرة } النار ، وقالت فرقة وقولها الأظهر الآية عامة في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً ع فالقاذف المؤمن لا يتصف بحب شياع { الفاحشة } في المؤمنين جملة لكنه يحبها لمقذوفه ، وكذلك آخر لمقذوفه ، وآخر حتى { تشيع الفاحشة } من مجموع فعلهم فهم لها محبون بهذا الوجه من حيث أحب واحد جزءاً من شياعها ، والعذاب الأليم { في الدنيا } الحدود وفي { الآخرة } يحتمل وجهين أحدهما أن يكون القاذف متوعداً من بين العصاة بعذاب الآخرة لا يزيله الحد ، حسب مقتضى حديث عبادة بن الصامت{[8643]} ويكون أمره كأمر المحاربين إذا صلبوا لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب ، والوجه الثاني أن يحكم بأن الحد مسقط عذاب الآخرة حسب حديث عبادة بن الصامت وأن قوله { والآخرة } لا يريد به عموم القذفة بل يريد إما المنافقين وإما من لم يتب ، وقال الطبري معناه إن مات مصراً غير تائب ، وقوله { والله يعلم } معناه البريء من المذنب وسائر الأمور ، وحجة الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد والعذاب على قاذفيكم .


[8642]:الشياع: الظهور والانتشار، يقال: شاع الأمر شيعا وشياعا وشيعانا وشيوعا وشيعوعة ومشيعا: ظهر وتفرق.
[8643]:حديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارة لأهلها أخرجه البخاري في الإيمان ومناقب الأنصار والتفسير والحدود والأحكام والتوحيد، وأخرجه مسلم والترمذي في الحدود، والنسائي في البيعة، والدرامي في السير، وأحمد في مسنده (5 ـ 314)، ولفظه كما في مسلم عن عبادة بن الصامت قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (19)

لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين ؛ فالجملة استئناف ابتدائي ، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين ، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين .

وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهاً على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين . ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيراً حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره ، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه . وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار . وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة . وتلك المحبة شيء غير الهمّ بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما ، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب . وهذا نظير الكناية في قوله تعالى : { ولا يحض على طعام المسكين } [ الماعون : 3 ] كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين . فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله : { أن تشيع } لأن ( أن ) تخلص المضارع للمستقبل . وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] .

ومعنى : { أن تشيع الفاحشة } أن يشيع خبرها ، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو : اشتهار التحدث بها . فتعين تقدير مضاف ، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حداً عظيماً في الشناعة .

وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } في سورة النساء ( 15 ) . وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } في سورة الأعراف ( 28 ) . وتقدم الفحشاء في قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) .

ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه ، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين . ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس ، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة .

هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضراً متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب .

ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله : { وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم } [ النور : 15 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدّقوا بالله ورسوله ويظهر ذلك فيهم، "لهم عَذَابٌ أليمٌ "يقول: لهم عذاب وجيع في الدنيا، بالحدّ الذي جعله الله حدّا لرامي المحصَناتِ والمحصَنين إذا رموهم بذلك، وفي الآخرة عذاب جهنم إن مات مُصِرّا على ذلك غير تائب... قال ابن زيد، في قوله: إنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ قال: الخبيث عبد الله بن أبيّ ابن سَلول، المنافق، الذي أشاع على عائشة ما أشاع عليها من الفرية، لهم عَذَابٌ أليمٌ...

"وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: والله يعلم كذبَ الذين جاءوا بالإفك من صدقهم، وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك لأنكم لا تعلمون الغيب، وإنما يعلم ذلك علاّم الغيوب. يقول: فلا تَروُوا ما لا علم لكم به من الإفك على أهل الإيمان بالله، ولا سيما على حلائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتهلكوا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

"إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا"، قيل في عائشة وفي المؤمنين، كان أهل النفاق هم الذين أحبوا أن تشيع الفاحشة، وأما أهل الإسلام فلا يحبون ذلك أبدا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة لنفاقهم وقذف عائشة.

وأما ما قيل في المؤمنين فهو ما قال: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين".

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

أبان الله بهذه الآية وجوب حُسْنِ الاعتقاد في المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم، فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق عليها العقاب، وذلك يدلّ على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كَفِّ الجوارح والقول عما يضرُّ بهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هؤلاء في استحقاق الذمِّ أقبحُ منزلةً، وأشدّ وِزْراً حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرةُ المسلمين، وإعانةُ أولي الِّدين، وإرادةُ الخير لكافة المؤمنين. والذي يودُّ فتنةً للمسلمين فهو شرُّ الخَلْق، واللَّهُ لا يرضى منه بحاله، ولا يؤهله لمنالِ خلاصة التوحيد.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال مجاهد وابن زيد الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين عبد الله بن أَبي ومن أشبهه، وهي خاصة في أمر عائشة رضي الله عنها... وقالت فرقة -وقولها الأظهر- الآية عامة في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً، فالقاذف المؤمن لا يتصف بحب شياع {الفاحشة} في المؤمنين جملة لكنه يحبها لمقذوفه، وكذلك آخر لمقذوفه، وآخر حتى {تشيع الفاحشة} من مجموع فعلهم، فهم لها محبون بهذا الوجه من حيث أحب واحد جزءاً من شياعها...

{والله يعلم} معناه: البريء من المذنب وسائر الأمور، وحجة الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد والعذاب على قاذفيكم.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} يَعْنِي يُرِيدُ ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَظْهَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ فِي الْحُدُودِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا الذم كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره، وليعلم أن أهل الإفك كما عليهم العقوبة فيما أظهروه، فكذلك يستحقون العقاب بما أسروه من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين...

الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة..

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح،.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً: {إن الذين يحبون} عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة {أن تشيع} أي تنتشر بالقول أو بالفعل {الفاحشة} أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها {في الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته، وتبوأ غايته {لهم عذاب أليم} ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى {في الدنيا} بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به {والآخرة} فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا. {والله} أي المستجمع لصفات الجلال والجمال {يعلم} أي له العلم التام، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن،وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعملوا بما علمكم الله، ولا تتجاوزوه تضلوا.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ "وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة. وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلف عنه من آثار؛ مكررا التحذير من مثله، مذكرا بفضل الله ورحمته، متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف أبي بكر -رضي الله عنه- من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:

(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)..

والذين يرمون المحصنات -وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم- إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها.. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.

من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثم يعقب بقوله: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).. ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير؟

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهاً على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين. ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيراً حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه...

ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها؛ وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة...

ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر، وهذا كقوله: {وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم} [النور: 15].

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وندد كتاب الله في ختام هذا الربع بالذين يجدون لذة في ترويج أقوال السوء، ونشر الإشاعات الباطلة عن صالحي المؤمنين، لبلبلة الأفكار ونهش الأعراض، وهددهم بالعذاب الأليم في الدنيا، وهو العقوبة المترتبة على القذف بسائر أنواعه، وبالعذاب في الآخرة وهو عذاب النار، فقال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي هو وحده الذي يعلم مقدار عظم هذا الذنب وانعكاساته على الأفراد والجماعات، وإلى أي حد من الأذى يمكن أن يصل، فردوا الأمور إليه تهتدوا.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{يحبون} الحب عمل قلبي، والكلام عمل لساني، وترجمة عملية لما في القلب، فالمعنى: الذين يحبون هذا ولو لم يتكلموا به، لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار. ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن، المسألة خطيرة. والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة أنها ستكون أسوة سيئة في المجتمع. وهذا توجيه من الحق- سبحانه وتعالى- إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تراعى، وهي: حين تسمع خبرا يخدش الحياء أو يتناول الأعراض أو يخدش حكما من أحكام الله، فإياك أن تشيعه في الناس، لأن الإشاعة إيجاد أسوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضا على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى من يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس {لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} والحق- تبارك وتعالى- لم يعصم أحدا من المعصية وعمل السيئة، لكن الأسوأ من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مهاب في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإن سمعت في حقه ما لا يليق فلربما زهدك ما سمعت في هذا الشخص، وزهدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمت المجتمع من حسنات هذا الرجل. وهذه المسألة في التعليل الذي يستر الله به غيب الخلق عن الخلق، إذن: ستر عيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تثري الخير في المجتمع وتنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على علاتهم، وصدق الشاعر الذي قال فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنار

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

إن الآية الكريمة تحدثنا عن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وعن عقوبتهم المنتظرة في الدنيا والآخرة. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وذلك بإثارة الكلمات اللامسؤولة التي تتحدث عن حركة الفاحشة في حياة المؤمنين، من أجل إفساد طهارة الجوّ الإيماني الذي يغمر الجميع بأنفاس العفّة، حتى ليخيّل إلى الإنسان أن المجتمع يتفايض بالطهارة ويرفرف بالنقاء، في ما يراه من توازن الأفكار والمشاعر، واستقامة الأخلاق والخطوات، ونظافة العلاقات، فيأتي هؤلاء من هنا وهناك، ليطلقوا الإشاعات الكاذبة، بأن فلاناً زنى، وبأن فلانة انحرفت.. ويخوضون في ذلك، حتى يدفعوا الناس إلى الخوض فيه، فيتبدل الجوّ الطاهر إلى جوٍّ يوحي بالقذارة، ويتغير الهواء النقيّ إلى هواء فاسد، ويتحول الإيحاء في حركة الحياة من اتجاه يثير المعاني الطاهرة في الروح والشعور إلى اتجاه يثير المعاني القذرة في داخل النفس الإنسانية.. وهكذا تساهم الإشاعات والكلمات اللاّمسؤولة في انحراف الفكرة والإحساس، والخطوة والموقف، وتشكّل خطوةً تربويّة سلبيّة، بدلاً مما يريده الإسلام للكلمات أن تتحرك فيه، بحيث تكون خطوة تربويّة إيجابيّة، فإن الإنسان يتأثر بالمجتمع سلباً أو إيجاباً من خلال الفكرة التي يحملها عنه، أو من خلال الجوّ الذي يحتويه بفكره وروحه وحركته. وقد يكون هذا هو السبب في تحريم الإسلام لتداول الحديث في الجو الاجتماعي العام عن الانحرافات الحقيقيّة التي تحدث في المجتمع، بحيث تصبح تلك الانحرافات حديث الناس كلهم، لأنّ ذلك قد يخدش سلامة التصوّر الأخلاقي الذي يحتاجه الإنسان في عملية النموّ الذاتي، بما يثيره من مشاعر سلبيّةٍ منحرفة، كما قد يسيء إلى سمعة الإنسان المنحرف الذي لا يريد الإسلام أن يتحوّل الخطأ عنده إلى عقدةٍ مستحكمةٍ بسبب خوض الناس فيه، بل يريد أن يفسح له فرصة التحرك نحو التصحيح في خطوة تراجعيّةٍ دون أن يفقد شيئاً من الإحساس بالكرامة، ما دام الخطأ حالة طارئة خفيّة عاشها، ويشعر بثقلها في داخله. بين العمل الصالح والنفس الصالحة إن الإسلام يؤكّد على احترام الفرد في خطئه، وحصر الخطأ في الدائرة الخاصة المتصلة بالمسؤولية، لينال جزاءه عليه، أو ليتراجع عنه، وعلى احترام المجتمع في جوّه العام، وإبعاد الأجواء الشرّيرة، وما يوحي بها من كلام وخطوات.. وهذا في الحالات التي لا تفرض المصلحة العامة التشهير بالمنحرف كعقوبةٍ علنيّةٍ، من خلال ما يفرضه الردع القانوني الشرعي من وسائل حاسمة في ذلك..

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ما تشتمل عليه هذه القضية من مفاسد ونتائج سلبيّةٍ على أكثر من صعيد، مما يفرض الردع على كل المستويات.