ثم يكشف عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض :
( ذلك بأنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون )
هذا هو السبب في الاعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله ؛ والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب . . إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة ، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل . يتجلىهذا في قولهم :
( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) . .
وإلا فلماذا لا تمسهم النار إلا أياما معدودات ؟ لماذا وهم ينحرفون أصلا عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله ؟ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقا بعدل الله ؟ بل إذا كانوا يحسون أصلا بجدية لقاء الله ؟ إنهم لا يقولون إلا افتراء ، ثم يغرهم هذا الافتراء :
( وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ) . .
وحقا إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله ، والشعور بحقيقة هذا اللقاء ، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله . .
وحقا إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله ، مع الاعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله ، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة . .
ومثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون . ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون . وفيهم من يتبجحون ويتوقحون ، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين ! وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية ، بل العائلية ، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون ! ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيرا من المعاصي ، ثم يساقون إلى الجنة ! أليسوا مسلمين ؟ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء ، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين . . وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين ، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله : الإسلام . . الاستسلام والطاعة والاتباع . والتلقي من الله وحده في كل شأن من شؤون الحياة :
ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } أي : إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام ، عن كل ألف سنة في الدنيا يوما . وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة . ثم قال : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ أي غرهم في دينهم ]{[4923]} أي : ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات ، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه ، ولم ينزل الله به سلطانا .
وقوله تعالى : { ذلك بأنهم } الإشارة فيه إلى التولي والإعراض ، أي إنما تولوا وأعرضوا لاغترارهم بهذه الأقوال والافتراء الذي لهم في قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه }{[3057]} إلى غير ذلك من هذا المعنى ، وكان من قول بني إسرائيل : إنهم لن تمسهم النار إلا أربعين يوماً عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، قاله الربيع وقتادة ، وحكى الطبري أنهم قالوا : إن الله وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحداً من ولده النار إلا تحلة القسم{[3058]} ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود : من أول من يدخل النار ؟ فقالوا نحن فترة يسيرة ثم تخلفوننا فيها فقال : كذبتم الحديث بطوله{[3059]} ، و { يفترون } معناه ، يشققون ويختلقون من الأحاديث في مدح دينهم وأنفسهم وادعاء الفضائل لها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.