اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (24)

قوله : " ذَلِكَ " فيها وجهان :

أصحهما : أنها مبتدأ ، والجار بعده خبره ، أي : ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ ، التي لا حقيقةَ لها .

والثاني : أن " ذَلِكَ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : الأمر ذلك ، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله : " بأنَّهُمْ " متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه - .

وقال أبو البقاء : فعلى هذا يكون قوله " بأنَّهُمْ " في موضع نَصْب على الحال بما في " ذَا " من معنى الإشارة ، أي : ذلك الأمر مستحقاً بقولهم ، ثم قال : " وهذا ضعيفٌ " .

قلت : بل لا يجوز البتة .

وجاء - هنا - " مَعْدُودَاتٍ " ، بصيغة الجمع - وفي البقرة " مَعْدُودَةً " ، تفنُّناً في البلاغة ، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى ، فيقال : هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت : راسياتٌ - ، وجمال ماشية ، وإن شئت : ماشيات .

وخص الجمع بهذا الموضع ؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا : فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم ، وزجر من يعمل بعملهم .

فصل

قال الجبائيُّ : " هذه الآية فيها [ دلالة ] {[5295]} على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول : إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً ، ولما استحق الذمَّ ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [ قول ] {[5296]} باطل " .

قال ابن الخطيبِ : " كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام ؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ ، جائز من الله ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك ، لكن لِمَ قلتم : إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار ؟

بل ههُنَا وُجُوهٌ أُخَر :

الأول : لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة ، قليلة ؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام ، ومنهم من قال : لا ، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العِجل- .

الثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ، ويقولون : بتقدير وقوع الخطأ منا ، فإنَّ عذابنا قليل ، وهذا خطأ ؛ لأن عندنا المخطئ في التوحيد والنبوة والمعاد كافر ، والكافر عذابه دائم .

الثالث : أنهم لما قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } استحقروا تكذيبَ محمد - عليه السلام - ، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب ، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر ، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد ، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف " .

قوله : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ } الغُرور : الخِدَاع ، يقال منه : غَرًَّهُ ، يَغُرُّهُ ، غُرُوراً ، فهو غَارٌّ ، ومغرور .

والغَرُور : - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب .

والغِرُّ : الصغير ، والغِرِّيرَة : الصغيرة ؛ لأنهما يُخدعان ، والغِرَّة{[5297]} : مأخوذة من هذا ، قال : أخذه على غِرَّة ، أي : تغفُّل وخداعِ ، والغُرَّة : بياض في الوجه ، يقال منه : وَجْهٌ أغَرُّ ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء .

والجمع القياسي : غُرٌّ ، و غير القياسي غُرَّانُ .

قال : [ الطويل ]

ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ *** وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ{[5298]}

والغرة من كل شيء أنفسه ، وفي الحديث : " وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً ، عَبْداً أوُ أمَةً " .

قيل : الغُرًَّة : الخِيار ، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق ، كأنه أخَذَه من الغُرَّة ، وهو البياض في الوَجْه .

قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } " ما " يجوز أن تكون مصدريةً ، أو بمعنى " الذي " ، والعائد محذوف أي : الذي كانوا يفترونه .

قيل هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .

وقيل هو قولهم : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ]

وقيل : هو قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل .


[5295]:في أ: تدل.
[5296]:سقط في ب.
[5297]:في أ: المعرة.
[5298]:البيت لامرئ القيس. ينظر ديوانه (167) والمعاني الكبير لابن قتيبة 1/481 و 485، و593 والصناعتين ص 389 واللسان (طهر) والبحر المحيط 2/433 وتاج العروس 3/362 و444، والدر المصون 2/53.