الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (24)

قوله تعالى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ } : يجوزُ في " ذلك " وجهان ، أًصحُّهما : أنه مبتدأٌ والجارُّ بعده خبرهُ ، أي : ذلك التولِّي بسببِ هذه الأقوالِ الباطلةِ التي لا حقيقةَ لها . والثاني : أن " ذلك " خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ ذلك ، وهو قولُ الزجاج . وعلى هذا فقولُه : " بأنهم " متعلق بذلك المقدَّر ، وهو الأمر ونحوه . وقال أبو البقاء : " فعلى هذا يكون قوله : " بأنهم " في موضعِ نصبٍ على الحال مِمَّا في " ذا " من معنى الإِشارة أي : ذلك الأمرُ مستحقاً بقولِهم " ، ثم قال : " وهذا ضعيفٌ " . قلت : بل لا يجوزُ البتة .

وجاء هنا " معدودات " بصيغة الجمع ، وفي البقرة : { مَّعْدُودَةً } [ الآية : 80 ] تفنُّناً في البلاغة ، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى ، فيقال : " هذه جبالٌ راسيةٌ " وإن شئت : " راسيات " ، و " جِمال ماشية " وإن شئت :

" ما شيات " . وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا ، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم .

قوله : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ } الغُرور : الخِداع ، يقال منه : غَرَّه يَغِرُّه غُرورا فهو غارٌّ ومغرور ، والغَرور بالفتح مثالُ مبالغة ، كالضَّروب ، والغِرُّ : الصغير ، والغَريرة : الصغيرة لأنهما يَنْخَدِعَان والغِرَّةُ مأخوذة من هذا . يقال : " أخَذَه على غِرَّة " أي : تَغَفُّل وخداع ، والغُرَّةُ : بياضٌ في الوجهِ ، يقال منه : وَجْهٌ أَغرُّ ورجل [ أغرُّ ] وامرأة " غَرَّاء " ، والجمعُ القياسي : غُرٌّ ، وغيرُ القياسي : غُرَّان . قال :

ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ *** وأوجُهُهم عند المَشاهِدِ غُرَّانُ

والغُرَّةُ من كلِّ شيء : أَنْفَسُه ، وفي الحديث : " وجَعَلَ في الجنين غُرَّةً عبداً أو أَمَة " وقيل : " الغُرَّةُ " الخِيارُ . وقال أبو عمرو بن العلاء في تفسير هذا الحديث : " إنه لا يكون إلا الأبيضُ من الرقيقِ " كأنَّه أَخَذَه من الغُرَّة وهي البياضُ في الوجه .

قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : الذي كانوا يَفْتَرُونه .