وبعد فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة ، لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين ، ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم . مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي ؛ وفي الحركة الإسلامية على السواء . .
وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر ، وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده ، فينكشف ستر المنافقين . . وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين ؛ وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة . ممن يحبهم الله ويحبونه ؛ وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب . .
فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا . ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار ، وينوط هذا النهي بتقوى الله ؛ ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان ؛ ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا - من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار - أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين . وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا . ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ؛ الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه ، وأهينت عبادته ، وأهينت صلاته ، واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب . . فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ؛ ويرتكبونها لنقص في عقولهم . فما يستهزىء بدين الله وعبادة المؤمنين به ، إنسان سوي العقل ؛ فالعقل - حين يصح ويستقيم - يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله .
وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات ، لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله . فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم . والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك ، فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم .
ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار ، كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب ، في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله [ ص ] للجماعة المسلمة في ذلك الحين . ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى . . ولكن الله - سبحانه - كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة . وكان الله - سبحانه - يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين . وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا : إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين ! فهؤلاء - كهؤلاء - قد ناصبوا الإسلام العداء ، وترصدوه القرون تلو القرون ، وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى كانت الحروب الصليبية ؛ ثم كانت " المسألة الشرقية " التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ؛ ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ؛ ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ؛ ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض . . وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون . .
وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة . الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي ، كما يبني نظامها الاجتماعي ، كما يبني خطتها الحركية . . سواء . . وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ؛ وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين . ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ، ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب .
إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة ، وبحسن معاملة أهل الكتاب ؛ والذين قالوا : إنهم نصارى منهم خاصة . . ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا . . لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك . أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم . إن الولاء هو النصرة . هو التناصر بين فريق وفريق ؛ ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب - كما هو الشأن في الكفار - لأن التناصر في حياة المسلم هو - كما أسلفنا - تناصر في الدين ؛ وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ؛ ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم . وكيف يكون ؟ !
إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ، ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ؛ الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين . .
وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله ، من الكتابيين والمشركين ، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون ، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي و أخروي ، يتخذونها { هُزُوًا وَلَعِبًا } يستهزئون{[9991]} بها ، { وَلَعِبًا } يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد كما قال القائل :{[9992]}
وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا *** وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ
وقوله : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } " من " ههنا لبيان الجنس ، كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، وقرأ بعضهم { وَالْكُفَّارَ } بالخفض عطفا ، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } تقديره : ولا الكفار أولياء ، أي : لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء .
والمراد بالكفار ههنا المشركون ، وكذا وقع في قراءة ابن مسعود ، فيها رواه ابن جرير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ } .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] .
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم ، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين { هزؤاً ولعباً } والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزُؤاً » بضم الزاي والهمز ، و «هزْؤاً » بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزاً بتشديد الزاي المفتوحة و «هزُواً » بضم الزاي وتنوين الواو و «هزاً » بزاي مفتوحة منونة ، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلف القراء في إعراب { الكفار } فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة : «والكفارَ » نصباً ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفارِ » خفضاً ، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب ، قال أبو علي : حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل «الكفار » على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤاً ، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله : { إنا كفيناك المستهزئين }{[4603]} وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية ، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم { إنا معكم إنما نحن مستهزئون }{[4604]} ، ومن قرأ «الكفارَ » بالنصب حمل على الفعل الذي هو { لا تتخذوا } ، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار » بزيادة «من » فهذه تؤيد قراءة الخفض ، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا » وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان ، لأنهم أبعد شأواً في الكفر ، وقد قال تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين }{[4605]} ففرق بينهم إرادة البيان والجميع كفار ، وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة ، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب ، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون بألسنتهم ، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي حق مؤمنين .