في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

51

وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا ، أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى ، وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم ، وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام - وهم لا يشعرون أو لا يقصدون - يرسل بالنداء الثاني ، يهدد من يرتد منهم عن دينه - بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب - بأنه ليس عند الله بشيء ، وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه ، وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله ، إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء . ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه ، وهي ملامح محببة جميلة وضيئة . ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه . ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب ! والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين :

( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) . .

إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم ، منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . . وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول . . يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق ، وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار ، يجمع بينهم على هذا النحو ، الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء ، وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار ، لا تتعلق بقضية الولاء ، إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء . .

( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) . .

إن اختيار الله للعصبة المؤمنة ، لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض ، وتمكين سلطانه في حياة البشر ، وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم ، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم ، وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . . إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . . فهو وذاك ، والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .

والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا ، صورة واضحة السمات قوية الملامح ، وضيئة جذابة حبيبة للقلوب :

( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) . .

فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . . الحب . . هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . . هو الذي يربط القوم بربهم الودود .

وحب الله لعبد من عبيده ، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه ، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . . أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . . الذي يعرف من هو الله . . من هو صانع هذا الكون الهائل ، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير ! من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . . من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . . والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم ، الحي الدائم ، الأزلى الأبدي ، الأول والآخر والظاهر والباطن .

وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . . وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما ، وفضلا غامرا جزيلا ، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد ، الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . . هو إنعام هائل عظيم . . وفضل غامر جزيل .

وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه ، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . . وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد ، وهي تقول :

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر*** وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل الذي فوق التراب تراب

وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد ، والحب من العبد للمنعم المتفضل ، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض ، وينطبع في كل حي وفي كل شيء ، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .

والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . . وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . . إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا ) . . ( إن ربي رحيم ودود ) . . ( وهو الغفور الودود ) . . ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . . ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . . ( قل : إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) . . وغيرها كثير . .

وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ، ليقولوا : إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف ، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر ، وعذاب وعقاب ، وجفوة وانقطاع . . . لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله ، فيربط بين الله والناس ، في هذا الازدواج !

إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لا تجفف ذلك الندى الحبيب ، بين الله والعبيد ، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل ، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد ، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . . إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين .

وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب : ( يحبهم ويحبونه ) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو ، الذي يحتاج إليه القلب المؤمن ، وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .

ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات :

( أذلة على المؤمنين ) . .

وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . . فالمؤمن ذلول للمؤمن . . غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . . ميسر مستجيب . . سمح ودود . . وهذه هي الذلة للمؤمنين .

وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة ، ترفع الحواجز ، وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس ، فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .

إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه ، فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . . وماذا يبقى له في نفسه دونهم ، وقد اجتمعوا في الله إخوانا ؛ يحبهم ويحبونه ، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ؟ !

( أعزة على الكافرين ) . .

فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . . ولهذه الخصائص هنا موضع . . إنها ليست العزة للذات ، ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة ، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير ، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ؛ وبغلبة قوة الله على تلك القوى ؛ وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . . فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك ، في أثناء الطريق الطويل . .

( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) . .

فالجهاد في سبيل الله ، لإقرار منهج الله في الأرض ، وإعلان سلطانه على البشر ، وتحكيم شريعته في الحياة ، لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . . هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .

وهم يجاهدون في سبيل الله ؛ لا في سبيل أنفسهم ؛ ولا في سبيل قومهم ؛ ولا في سبيل وطنهم ؛ ولا في سبيل جنسهم . . في سبيل الله . لتحقيق منهج الله ، وتقرير سلطانه ، وتنفيذ شريعته ، وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء ، وليس لأنفسهم من هذا حظ ، إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .

وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . . وفيم الخوف من لوم الناس ، وهم قد ضمنوا حب رب الناس ؟ وفيم الوقوف عند مألوف الناس ، وعرف الجيل ، ومتعارف الجاهلية ، وهم يتبعون سنة الله ، ويعرضون منهج الله للحياة ؟ إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ؛ ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ؛ أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناسوشهواتهم وقيمهم ؛ وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته ، فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ؛ وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان ، وكائنة " حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !

إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ؛ ولما يفعل الناس ؛ ولما يملك الناس ؛ ولما يصطلح عليه الناس ؛ ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . . لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . . إنه منهج الله وشريعته وحكمه . . فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ؛ ولو كان عرف ملايين الملايين ، ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !

إنه ليست قيمة أي وضع ، أو أي عرف ، أو أي تقليد ، أو أية قيمة . . أنه موجود ؛ وأنه واقع ؛ وأن ملايين البشر يعتنقونه ، ويعيشون به ، ويتخذونه قاعدة حياتهم . . فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع ، وأي عرف ، وأي تقليد ، وأية قيمة ، أن يكون لها أصل في منهج الله ، الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .

ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . . فهذه سمة المؤمنين المختارين . .

ثم إن ذلك الاختيار من الله ، وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين ، وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم ، وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم ، والسير على هداه في جهادهم . . ذلك كله من فضل الله .

( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم ) .

يعطي عن سعة ، ويعطي عن علم . . وما أوسع هذا العطاء ؛ الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه{[9957]} وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 ، 20 ] أي : بممتنع ولا صعب . وقال تعالى هاهنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } أي : يرجع عن الحق إلى الباطل .

قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش . وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر .

{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه [ رضي الله عنهم ]{[9958]} رواه ابن أبي حاتم .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت أبا بكر بن عياش يقول في قوله{[9959]} { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هم أهل القادسية . وقال لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد : هم قوم من سبأ .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن الأجلح ، عن محمد بن عمرو ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : ناس من أهل اليمن ، ثم من كِنْدَة ، ثم من السَّكُون .

وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا معاوية - يعني ابن حفص - عن أبي زياد الحلفاني ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن جابر بن عبد الله قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : " هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون ، ثم من تجيب " . {[9960]} وهذا حديث غريب جدا .

وقال ابن أبى حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا عبد الصمد - يعني ابن عبد الوارث - حدثنا شعبة ، عن سِمَاك ، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري قال : لما نزلت : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم قوم هذا " . ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه . {[9961]}

وقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا{[9962]} لأخيه ووليه ، متعززًا على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه : " الضحوك القتال " فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه .

وقوله [ تعالى ]{[9963]} { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أي : لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله ، وقتال أعدائه ، وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يردهم عن ذلك راد ، ولا يصدهم عنه صاد ، ولا يحيك فيهم لوم{[9964]} لائم ولا عذل عاذل .

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا سلام أبو المنذر ، عن محمد بن واسع ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : أمرني{[9965]} خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع ، أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا ، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنهن من كنز تحت العرش . {[9966]}

وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن أبي{[9967]} المثنى ؛ أن أبا ذر قال : بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا ، وأشهد الله على تسعًا ، أني لا أخاف في الله لومة لائم . قال أبو ذر : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل لك إلى بيعة ولك الجنة ؟ " قلت : نعم ، قال : وبسطت يدي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط : على ألا تسأل الناس شيئا ؟ قلت : نعم قال : " ولا سوطك وإن سقط منك يعني{[9968]} تنزل إليه فتأخذه . " {[9969]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الحسن ، حدثنا جعفر ، عن المعلى القُرْدوسي ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري{[9970]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يُبَاعد من رزق{[9971]} أن يقول بحق أو يذكر{[9972]} بعظيم " . تفرد به أحمد . {[9973]}

وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن زُبَيْد عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري{[9974]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مَقَال ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس . فيقول : إياي أحق أن تخاف " .

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن عَمْرو بن مرة به . {[9975]} وروى أحمد وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة{[9976]} عن نهار بن عبد الله العبدي المدني ، عن أبي سعيد الخدري{[9977]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى إنه ليسأله يقول له : أيْ عبدي ، رأيت منكرًا فلم تنكره ؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته ، قال : أيْ رب ، وثقت بك وخفت الناس " . {[9978]}

وثبت في الصحيح : " ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " ، قالوا : وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله ؟ قال : " يتحمل من البلاء ما لا يطيق " . {[9979]}

{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : من اتصف بهذه الصفات ، فإنما هو من فضل الله عليه ، وتوفيقه له ، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : واسع الفضل ، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه .


[9957]:في ر: "منهم".
[9958]:زيادة من أ.
[9959]:في أ: "وقال ابن عباس".
[9960]:ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3312) "مجمع البحرين" من طريق معاوية بن حفص، عن أبي زياد إسماعيل بن زكريا، عن محمد بن قيس الأسدي، عن محمد بن المنكدر به، وقال: "لم يروه عن محمد بن قيس الأسدي إلا أبو زياد، ولا عنه إلا معاوية. تفرد به أبو حميد، فزاد هنا محمد بن قيس الأسدي".وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/95) ولم يذكر محمد بن قيس في سنده كما هو هنا في تفسيره، وقال: سمعت أبي يقول: "هذا حديث باطل".تنبيه: وقع هنا أبي زياد الحلفاني وفي العلل: الخلقاني، وهو الصواب "الخلقاني" كما في "الاستغناء في المشهورين من حملة العلم بالكنى" لابن عبد البر (2/1199).
[9961]:تفسير الطبري (10/414) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/123) وابن سعد في الطبقات (4/107) والطبراني في المعجم الكبير (17/371) وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/59) من طريق شعبة به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/16): "رجاله رجال الصحيح".
[9962]:في ر: "لمتواضعا".
[9963]:زيادة من أ.
[9964]:في أ: "لومة".
[9965]:في د: "أخبرني".
[9966]:المسند (5/159).
[9967]:في د: "ابن".
[9968]:في أ: "حتى".
[9969]:المسند (5/172).
[9970]:في د: "عن أبي سعيد مرفوعا".
[9971]:في ر: "لا يباعد من أجل ولا يقرب من رزق".
[9972]:في أ: "وأن يذكره".
[9973]:المسند (3/50).
[9974]:في ر: "عن أبي سعيد مرفوعا".
[9975]:المسند (3/73) وسنن ابن ماجة برقم (4008)، وقال البوصيري في الزوائد (3/242): "هذا إسناد صحيح".
[9976]:في أ: "عبد الرحمن بن أبي طوالة".
[9977]:في ر: "عن أبي سعيد مرفوعا".
[9978]:المسند (3/77) وسنن ابن ماجة برقم (4017) وقال البوصيري في الزوائد (3/244): "هذا إسناد صحيح".
[9979]:لم أجده أثناء البحث في الصحيحين ولعلي أتداركه فيما بعد. وقد رواه الترمذي في السنن برقم (2254) وابن ماجة في السنن برقم (4016) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن عن جندب، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه به، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتدد{[4592]} منكم عن دينه } الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة ، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، وقال هذا القول ابن جريج وغيره{[4593]} .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر ، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج ، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري{[4594]} وقال هذا القول عياض ، وقال شريح بن عبيد : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ولكنهم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى{[4595]} ، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضاً : الإشارة إلى أهل اليمن ، وقاله شهر بن حوشب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله عندي قول واحد ، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى ، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد ، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار .

قال القاضي أبو محمد : وهذا على أن يكون قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } خطاباً للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم . لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان ، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين ، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد » بإدغام الدال في الدال ، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد » بترك الإدغام ، وهذه لغة الحجاز ، مكة وما جاورها ، والإدغام لغة تميم ، وقوله تعالى { أذلة على المؤمنين } معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين ، وهذا كقوله تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم }{[4596]} وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين » ، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين » ، وقوله تعالى : { ولا يخافون لومة لائم } إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم . وقوله تعالى : { ذلك فضل الله } الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم ، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها . و { واسع } معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم .


[4592]:- هكذا بدالين الأولى مكسورة والثانية مجزومة، وهي قراءة ابن عامر ونافع وأهل الشام والمدينة.
[4593]:- أخرج ابن جرير،وابن أبي حاتم- عن الضحاك خبرا في هذا المعنى، وأخرج مثله عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والبيهقي، وابن عساكر- عن قتادة.
[4594]:- ورواه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" بسنده- قال ذلك القرطبي.
[4595]:- أخرجه ابن جرير عن شريح بن عبيد.
[4596]:- من الآية (29) من سورة (الفتح).