وتقريراً لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية :
( ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وأن اللّه هو التواب الرحيم ? ) .
وهو استفهام تقريري يفيد : فليعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة ؛ واللّه هو يأخذ الصدقة ، واللّه هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . " وأن نبي اللّه حين أبي أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه ؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق اللّه عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - [ ص ] - وأن ذلك إلى اللّه تعالى ذكره دون محمد . وان محمداً إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر اللّه " . . كما يقول ابن جرير . .
وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها{[13820]} يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها .
وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها ، حتى تصير التمرة مثل أحد . كما جاء بذلك الحديث ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما قال الثوري ووكيع ، كلاهما عن عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم ، كما يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتَصير مثل أحد " ، وتصديق ذلك في كتاب الله ، عز وجل : { [ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ] هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } {[13821]} و[ قوله ]{[13822]} { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ]{[13823]} . وقال الثوري والأعمش كلاهما ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل . ثم قرأ هذه الآية : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } {[13824]} .
وقد روى ابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة عبد الله بن الشاعر السَّكْسَكي الدمشقي - وأصله حمصي ، وكان أحد الفقهاء ، روى عن معاوية وغيره ، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي - قال : غزا الناس في زمان معاوية ، رضي الله عنه ، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فَغَلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية . فلما قفل الجيش نَدم وأتى الأميرَ ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها منك ، حتى تأتي الله بها يوم القيامةَ فجعل الرجل يستقرئ الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك ، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه . فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال أمطيعُني أنت ؟ فقال : نعم ، فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خُمسك ، فادفع إليه عشرين دينارًا ، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل ، فقال معاوية ، رضي الله عنه : لأن أكون أفتيتُه بها أحب إلي من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل " {[13825]} .
قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا » على ذكر الغائب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا » على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا » ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق ، والضمير في { يعلموا } قال ابن زيد : يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ، وذلك أنهم لما ِتيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء ؟ فنزلت هذه الآية ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يعلموا } يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم ، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك ، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل ، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك ، وقوله { ويأخذ الصدقات } معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه .
وقال الزجّاج : معناه ويقبل الصدقات ، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه : «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل »{[5878]} ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة : «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل »{[5879]} ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد ، فقد يحتمل أن تخرج لفظة { ويأخذ } على هذا ، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة ، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعاً ، وهذه نازلة هذه الآية ، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر ، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم ، واختلف هل تقبل توبة الجميع ، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله ، وأما إذا فرضنا تائباً غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا ، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون - وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه{[5880]} - يقطع على الله بقبول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه ، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين ، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء ، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه ، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القول ، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب ، وقوله تعالى { عن عباده } هي بمعنى «من » وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره{[5881]} ، وقوله تعالى { ألم يعلموا } تقرير ، والمعنى حق لهم أن يعلموا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.