في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَآقَّةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون

هذه سورة هائلة رهيبة ؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة ؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آنا وبالجلال آنا ، وبالعذاب آنا ، وبالحركة القوية في كل آن !

والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد . . أن هذا الأمر ، أمر الدين والعقيدة ، جد خالص حازم جازم . جد كله لا هزل فيه . ولا مجال فيه للهزل . جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان الله وحسابه . جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا . وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم ، وأخذه الحاسم . ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول . فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر . . إنه الحق . حق اليقين . من رب العالمين .

يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة ، والذي سميت به السورة : " الحاقة " . . وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار . وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا ، ثم استقراره استقرارا مكينا . رفعه في مدة الحاء بالألف ، وجده في تشديد القاف بعدها ، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة .

ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم ، وجماعة بعد جماعة ، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة : كذبت ثمود وعاد بالقارعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية ? وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ، فعصوا رسول ربهم ، فأخذهم أخذة رابية . إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية . . وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة ، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل ، الذي لا يحتمل هزلا ، ولا يحتمل لعبا ، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك !

ويبرز في مشهد القيامة المروع ، وفي نهاية الكون الرهيبة ، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ، فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . . والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . .

ذلك الهول . وهذا الجلال . يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول . ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها . هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه . . فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة . . ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول : يا ليتني لم أوت كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) . . بهذا التفجع الطويل ، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير . .

ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب ، في اليوم الهائل ، وفي الموقف الجليل : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . . وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض ، وتنقض في جلال مذهل ، وفي هول مروع ، وفي جد ثقيل . .

ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل ، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون . .

ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل ، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن ، قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين ) .

وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير . وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل . كائنا من كان ، ولو كان هو محمدا الرسول : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . . فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين . .

وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير : ( وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين . . فسبح باسم ربك العظيم ) . . وهو الختام الذي يقطع كل قول ، ويلقي بكلمة الفصل ، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو ، والتسبيح باسم الله العظيم . .

ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :

إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكا ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة !

فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط [ المؤتفكات ] حاضرة شاخصة ، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها . وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين . . ومن ذا الذي يقرأ : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ? ) . . ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة . سبع ليال وثمانية أيام . ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ! ) .

وهو مشهد حي ماثل للعين ، ماثل للقلب ، ماثل للخيال ! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة .

ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون . هذه هي تخايل للحس ، وتقرقع حوله ، وتغمره بالرعب والهول والكآبة . ومن ذا الذي يسمع : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) . . ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة ! ! ومن الذي يسمع : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجائها ) . . ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة ، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة ? ! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع : ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .

ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة ، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه !

ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله . والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته : ( يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) .

ومن ذا الذي لا يرتعش حسه ، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب : خذوه ، فغلوه ، ثم الجحيم صلوه ، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . . . الخ . . وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير !

وحاله هناك : فليس له اليوم هاهنا حميم ، ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون .

وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة ، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ! ) . .

إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة ، وهي تلح عليه ، وتضغط ، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف !

ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة ، برنته الخاصة وتنوع هذه الرنة ، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق . . فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة :

( الحاقة . ما الحاقة ? وما أدراك ما الحاقة ? ) . . إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها . سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون ، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع ، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة ، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء . ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . . . ) . . ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم ، وتقرير جدية الأمر ، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون : نه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين . . ( وإنه لحق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . .

وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهدوالجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق . وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس . في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير .

إنها سورة هائلة رهيبة . قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة . وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق !

( الحاقة . ما الحاقة ? . وما أدراك ما الحاقة ? ) . .

القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة . ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا . فالحاقة هي التي تحق فتقع . أو تحق فتنزل بحكمها على الناس . أو تحق فيكون فيها الحق . . وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها . ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها ؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها . في الدنيا وفي الآخرة جميعا .

والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع . وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى ؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة ، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية ، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة ؛ فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى . وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع .

والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله . . تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره . فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : ( الحاقة ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلۡحَآقَّةُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الحاقة

وهي مكية .

الحاقةُ من أسماء يوم القيامة ؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد ؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } ؟

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَآقَّةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحاقة مكية وآيها اثنتان وخمسون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم الحاقة أي الساعة أو الحالة التي يحق وقوعها أو التي تحق فيها الأمور أي نعرف حقيقتها أو تقع فيها حواق الأمور من الحساب والجزاء على الإسناد المجازي وهي مبتدأ خبرها .