في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

47

ومن الحشر الجامع الذي لا يخلف أحدا إلى العرض الشامل : ( وعرضوا على ربك صفا ) . هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد ، منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة الدنيا . . هذه الخلائق كلها محشورة مجموعة مصفوفة ، لم يتخلف منها أحد ، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحدا .

وهنا يتحول السياق من الوصف إلى الخطاب . فكأنما المشهد حاضر اللحظة ، شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه . ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه : لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة . بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .

هذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه . كأنما هو حاضر اللحظة ، لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب .

وإننا لنكاد نلمح الخزي على الوجوه ، والذل في الملامح . وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون : 1 زعمتم ألن نجعل لكم موعدا !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

وقوله : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } يحتمل أن يكون المراد : أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] ويحتمل أنهم يقومون{[18235]} صفوفًا صفوفا ، كما قال : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ الفجر : 22 ]

وقوله : { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ؛ ولهذا قال مخاطبا لهم : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي : ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن .


[18235]:في ف، أ: "أن يقوموا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

وقوله : وَعُرِضُوا عَلى رَبّكَ صَفّا يقول عزّ ذكره : وعُرض الخلق على ربك يا محمد صفا لَقَدْ جِئْتُمُونا كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول عزّ ذكره : يقال لهم إذ عُرضوا على الله : لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خلقناكم أوّل مرّة وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام .

وقوله : بَلْ زَعَمْتُمْ ألّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع ، والمراد منه الخصوص ، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل ، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث . ومعلوم أنه لا يُقال يومئذٍ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا ، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات ، والحشر إلى القيامة موعدا ، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذّبا بالبعث وقيام الساعة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

{ وعُرضوا على ربك } شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم . { صفا } مصطفين لا يحجب أحد أحداً . { لقد جئتمونا } على إضمار القول على وجه يكون حالا أو عاملا في يوم نسير . { كما خلقناكم أول مرة } عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله { ولقد جئتمونا فرادى } أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله : { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا } وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به ، وبل للخروج من قصة إلى أخرى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

عَرض الشيء : إحضاره ليُرى حاله وما يحتاجه . ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم . وفي الحديث « عُرضت عليّ لأمم » وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم .

والصف : جماعة يقفون واحداً حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحداً . وأصله مصدر ( صفهم ) إذا أوقفهم ، أطلق على المصفوف . وانتصب { صفاً } على الحال من واو { عُرضوا } . وتلك الحالة إيذان بأنهم أحضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعاً للرعب في قولبهم .

وجملة { وعرضوا على ربك } معطوفة على جملة { وحشرناهم } ، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في { حشرناهم } ، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيهاً على سرعة عرضهم في حين حشرهم .

وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله : { على ربك } دون أن يقال ( علينا ) لتضمن الإضافة تنويهاً بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيباً من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث .

وجملة { لقد جئتمونا } مقولٌ لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتعين تقدير القول ، وهذه الجملة في محل الحال . والتقدير : قائلين لهم لقد جئتمونا . وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى . والخطاب في قوله : { لقد جئتمونا } موجه إلى معاد ضمير { عُرضوا } .

والخبر في قوله : { لقد جئتمونا } مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث . والمجيء : مجاز في الحضور ، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب .

وقوله : { كما خلقناكم أول مرة } واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة ، أي جئتمونا مجيئاً كخلقكم أول مرة . فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول ، أي فهذا خلق ثانٍ . و ( ما ) مصدرية ، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى ، قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث .

والإضراب في قوله : { بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً } انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار ؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازاً وليس مستعملاً في إفادة مدلوله الأصلي .

والزعم : الاعتقاد المخطىء ، أو الخبر المعرَّض للكذب . والموعد أصله : وقت الوعد بشيء أو مكان الوعد . وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت .

والمعنى : أنكم اعتقدتم باطلاً أن لا يكون لكم موعد للبعث بعدا لموت أبداً .