الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

قوله : { صَفَّاً } : حالٌ من مرفوعِ " عُرِضوا " وأصلُه المصدرية . يُقال منه : صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً ، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين . واخْتُلَِف هنا في " صَفَّاً " : هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ ، إذ المرادُ صفوفاًَ ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح : " يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً " وفي حديث آخر : " أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً ، أنتم منهم ثمانون " وقيل : ثَمَّ حَذْفٌ ، أي : صَفَّاً صَفَّاً . ومثلُه قولُه في موضع :

{ وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخرَ : { يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفاً صفاً ، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا . وقيل : بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً ، وهو أبلغُ في القُدرة . وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال ، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً .

قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمارِ قولٍ ، أي : وقُلْنا لهم : كيت وكيت . وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } [ الكهف : 47 ] . ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ " عُرِضُوا " ، أي : عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا .

قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } ، أي : مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً ، لا مالَ ولا ولدَ معكم . وقال الزمخشري : " لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة " فعلى هذين التقديرين ، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه .

قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ } " أَنْ " هي المخففةُ ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي . و " لكم " يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير . و " مَوْعِداً " هو الأول . ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل ، أو يكونَ حالاً مِنْ " مَوْعداً " إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً ، بل بمعنى لمجردِ الإِيجاد .

و " بل " في قولِه : " بل زَعَمْتُمْ " لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ .