اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

قوله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } .

{ صَفًّا } : حال من مرفوع " عرضوا " وأصله المصدرية ، يقال منه : صفَّ يصفُّ صفًّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين ، واختلف هنا في " صفًّا " : هل هو مفرد وقع موقع الجمع ؛ إذ المراد صفوفاً ؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : " يجمعُ الله الأوَّلين والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً " {[21129]} وفي حديث آخر : " أهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا ، أنتم منها ثمانون " {[21130]} .

ويؤيده قوله تعالى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : ثَمَّ حذف ، أي : صفًّا صفًّا ، ونظيره قوله في موضع : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخر : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفًّا صفًّا ؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفًّا [ واحداً ] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً ، وتارة صفوفاً .

وقيل : صفًّا أي : قياماً ؛ لقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [ الحج : 36 ] أي قياماً .

قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمار قول ، أي : وقلنا لهم كيت وكيت .

وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع " عُرِضُوا " ، أي : عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا .

قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } : أي : مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة ، عراة غرلاً ، لا مال ، ولا ولد معكم ، وقال الزمخشري : " لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَا أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة " فعلى هذين التقديرين ، يكون نعتاً للمصدر المحذوف ، وعلى رأي سيبويه{[21131]} : يكون حالاً من ضميره .

قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .

ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه{[21132]} ؛ لأنهم خلقوا صغاراً ، ولا عقل لهم ، ولا تكليف عليهم ، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي حفاة ، عراة ، بغير أموال ، ولا أعوانٍ ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ الأنعام : 94 ] .

ثم قال تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار ، تنكرون البعث ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا ، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ .

قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } " أنْ " هي المخففة ، وفصل بينها وبين خبرها ؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي ، و " لكم " يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير ، و " مَوْعداً " هو الأول ، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل ، أو يكون حالاً من " مَوعِداً " إذا لم يجعل الجعل تصييراً ، بل لمجرد الإيجادِ .

و " بَلْ " في قوله : " بَل زَعَمتُمْ " لمجرَّد الانتقالِ ، من غير إبطالٍ .


[21129]:أخرجه أحمد في "مسنده" (4/407).
[21130]:أخرجه الترمذي (4/589) كتاب صفة الجنة: باب ما جاء في صفة أهل الجنة حديث (2546) وابن ماجه (4289) من حديث بريدة وقال الترمذي حديث حسن.
[21131]:ينظر: الكتاب 1/116.
[21132]:ينظر: الفخر الرازي 21/114.