السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا} (48)

ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانياً الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين : { وعرضوا على ربك } المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك ، وقوله تعالى : { صفاً } حال أي : مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه ؛ الأوّل : أن تعرض الخلق كلهم صفاً واحداً لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضاً ، ثانيها : لا يبعد أن يكونوا صفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى : { صفاً } صفوفاً كقوله تعالى : { يخرجكم طفلاً } [ غافر ، 67 ] أي : أطفالاً ، ثالثها : المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى : { فاذكروا اسم اللّه عليها صواف } [ الحج ، 36 ] أي : قياماً وقيل : كل أمّة صف ويقال لهم : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة } أي : فرادى حفاةً عراةً غرلاً وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث : { بل زعمتم أن } أي : أنّا { لن نجعل لكم موعداً } أي : مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق . وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : «أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } [ المائدة : 117 ] إلى قوله : { العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] قال : فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم » وفي رواية فأقول : «سحقاً سحقاً » وقوله : غرلاً أي : قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله : سحقاً أي : بعداً . قال بعض العلماء : المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده ، وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ، فقلت : الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ، فقال : الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك » زاد النسائي في رواية " لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . وعن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه : «يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا » .