وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه ، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه . . مشهد تهيؤ موسى - عليه السلام - للقاء ربه العظيم ؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا ؛ ووصيته لأخيه هارون - عليه السلام - قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم :
( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وأتممناها بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة . . وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي ، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) . .
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها . انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه ؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة ، في طريقهم إلى الأرض المقدسة . . ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى . . مهمة الخلافة في الأرض بدين الله . . ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم ؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - ولم يمض إلا القليل ! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم ؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم . . ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه . وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه ، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم ، ويستعد لتلقيه .
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة ، أضيفت إليها عشر ، فبلغت عدتها أربعين ليلة ، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود ؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء ؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل ؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء ؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة . .
وألقى موسى إلى أخيه هارون - قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه - بوصيته تلك :
( وقال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) . .
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه . ولكن المسلم للمسلم ناصح . والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم . . ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة ، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل ! . . وقد تلقى هارون النصيحة . لم تثقل على نفسه ! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه ؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار ، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم ! . . إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ؛ ليظهر أنه كبير ! ! !
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتهامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير : " فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة ؛ قال المفسرون : فصامها موسى - عليه السلام - وطواها ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين " . .
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل ، بما حصل لهم من الهداية ، بتكليمه موسى ، عليه السلام ، وإعطائه التوراة ، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم ، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة .
قال المفسرون : فصامها موسى ، عليه السلام ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر{[12094]} أربعين .
وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي ؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة ، والعشر عشر ذي الحجة . قاله مجاهد ، ومسروق ، وابن جريج . وروي عن ابن عباس . فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر ، وحصل فيه التكليم لموسى ، عليه السلام ، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } [ المائدة : 3 ]
فلما تم الميقات عزم{[12095]} موسى على الذهاب إلى الطور ، كما قال تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ } الآية [ طه : 80 ] ، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون ، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد . وهذا تنبيه وتذكير ، وإلا فهارون ، عليه السلام ، نبي شريف كريم على الله ، له وجاهة وجلالة ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى سائر الأنبياء{[12096]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىَ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىَ لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وقيل : إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ يقول : وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة . وقيل : إن العشر التي أتمها به أربعين ، عشر ذي الحجة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة .
قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة وعشر ذي الحجة ، ففي ذلك اختلفوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً هو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فذلك قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن الثلاثين التي كان واعد موسى ربه كانت ذا القعدة والعشر من ذي الحجة التي تمم الله بها الأربعين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال : ذو القعدة . وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر ذي الحجة . قال ابن جريج : قال ابن عباس ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَوَاعَدْنا مِوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ قال : ذو القعدة ، والعشر الأوّل من ذي الحجة .
قال : ثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق : وأتمَمْناها بِعَشْرٍ قال : عشر الأضحى .
وأما قوله : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً فإنه يعني : فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة وبلغها . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَتَمّ مِيقاتُ رَبّهِ قال : فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ مُوسَى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ .
يقول تعالى ذكره : لما مضى لموعد ربه ، قال لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَوْمي يقول : كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع ، يقال منه : خَلَفه يخلُفُه خلافة . وأَصْلِحْ يقول : وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال موسى لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَومي وأصْلِحْ وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعبد .
وقوله : وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ يقول : ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم ، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم ، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم . فكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون ونجى من بني إسرائيل فيما قال أهل العلم ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً . . . الاَية ، قال : يقول : إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون ، وقبل الطور لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرق آل فرعون وخلص إلى الأرض الطيبة ، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى وأمره ربه أن يلقاه ، فلما أراد لقاء ربه استخلف هارون على قومه ، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة ميعادا من قِبله من غير أمر ربه ولا ميعاده فتوجّه ليلقى ربه ، فلما تمت ثلاثون ليلة ، قال عدوّ الله السّامريّ : ليس يأتيكم موسى ، وما يصلحكم إلاّ إله تعبدونه فناشدهم هارون وقال : لا تفعلوا انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم فقالوا : نعم . فلما أصبحوا من غد ولم يروا موسى عاد السامريّ لمثل قوله بالأمس ، قال : وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله بينهم عشرا ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، فعاد هارون فناشدهم ، إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضا ، فإن جاء وإلاّ فعلتم ما بدا لكم . ثم عاد السامريّ الثالثة لمثل قوله لهم ، وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا . فلما لم يروه . . . .
قال القاسم : قال الحسن : حدثني حجاج ، قال : ثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ ، قال : قام السامريّ إلى هارون حين انطلق موسى ، فقال : يا نبيّ الله إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليّا كثيرا من زينتهم ، وإن الذين معك قد أسرعوا في الحليّ يبيعونه وينفقونه ، وإنما كان عاريَة من آل فرعون فليسوا بأحياء فنردّها عليهم ، ولا ندري لعلّ أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي ، إما يقربها قربانا فتأكلها النار ، وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء . فقال له هارون : نعم ما رأيت وما قلت فأمر مناديا فنادى : من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به فأتوه به ، فقال هارون : يا سامريّ أنت أحقّ من كانت عنده هذه الخزانة . فقبضها السامريّ ، وكان عدوّ الله الخبيث صائغا ، فصاغ منه عجلاً جسدا ، ثم قذف في جوفه تربة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر ، فجعل يخور ، ولم يخر إلاّ مرّة واحدة ، وقال لبني إسرائيل : إنما تخلف موسى بعد الثلاثين ليلة يلتمس هذا هَذَا إلهُكُم وإلهُ مُوسَى فنَسِيَ يقول : إن موسى عليه السلام نسي ربه .
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } ذا القعدة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب " ووعدنا " . { وأتممناها بعشر } من ذي الحجة . { فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة } بالغا أربعين . روي : أنه عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا . وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمة فيها . { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم . { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا . { ولا تتّبع سبيل المفسدين } ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه .