بعد ذلك يلتفت السياق إلى الرسول [ ص ] فيتحدث عن تصريف الآيات على هذا المستوى ، الذي لا يتناسب مع أمية النبي [ ص ] وبيئته ؛ والذي يدل بذاته على مصدره الرباني - لمن تتفتح بصيرته - ولكن المشركين ما كانوا يريدون الاقتناع بالآيات . ومن ثم كانوا يقولون : إن محمدا درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب ! وما دروا أن أهل الكتاب ما كانوا يعلمون شيئا على هذا المستوى الذي يحدثهم محمد فيه ؛ وما كان أهل الأرض جميعا - وما يزالون - يبلغون شيئا من هذا المستوى السامق على كل ما عرف البشر وما يعرفون . ومن ثم يوجه الرسول [ ص ] إلى اتباع ما أوحي إليه والإعراض عن المشركين :
( وكذلك نصرف الآيات ، وليقولوا : درست ، ولنبينه لقوم يعلمون . اتبع ما أوحي إليك من ربك ، لاإله إلا هو ، وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا . وما جعلناك عليهم حفيظا ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
إن الله يصرف آياته على هذا المستوى الذي لا عهد للعرب به ؛ لأنه ليس نابعا من بيئتهم - كما أنه ليس نابعا من البيئة البشرية على العموم - فينتهي هذا التصريف إلى نتيجتين متقابلتين في البيئة :
فأما الذين لا يريدون الهدى ، ولا يرغبون في العلم ، ولا يجاهدون ليبلغوا الحقيقة . فهؤلاء سيحاولون أن يجدوا تعليلا لهذا المستوى الذي يخاطبهم به محمد - وهو منهم - وسيختلقون ما يعلمون أنه لم يقع . فما كان شيء من حياة محمد خافيا عليهم قبل الرسالة ولا بعدها . . ولكنهم يقولون : درست هذا يا محمد مع أهل الكتاب وتعلمته منهم ! وما كان أحد من أهل الكتاب يعلم شيئا على هذا المستوى . . وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك ما تزال بين أيدينا . والمسافة شاسعة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وهذا القرآن الكريم . . إن ما بين أيديهم إن هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين - هذا فيما يختص بالعهد القديم - فأما العهد الجديد - وهو الأناجيل - فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح - عليه السلام - بعد عشرات السنين ؛ وتداولتها المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على ممر السنين . وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان . . وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك ، وما يزال . . فأين هذا كله من القرآن الكريم ؟ ! ولكن المشركين - في جاهليتهم - كانوا يقولون هذا ؛ وأعجب العجب أن جاهليين في هذا العصر من " المستشرقين " و " المتمسلمين " ! يقولون هذا القول فيسمى الآن " علمًا " و " بحثًا " و " تحقيقًا " لا يبلغة إلا المستشرقون !
فأما الذين ( يعلمون ) حقا ، فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه :
وقوله : { وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : وكما فصلنا الآيات في هذه السورة ، من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين ، وليقول المشركون والكافرون المكذبون : دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم .
هكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم .
وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن كيسان ، سمعت ابن عباس يقرأ : { دَارَسْتَ } تلوتَ ، خاصمتَ ، جادلتَ{[11021]}
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا . وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ]{[11022]} } [ الفرقان : 4 ، 5 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن زعيمهم وكاذبهم : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } [ المدثر : 18 - 25 ] .
وقوله : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه . فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك ، وبيان الحق لهؤلاء . كما قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ] {[11023]} } [ البقرة : 26 ] ، وقال تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ{[11024]} } [ الحج : 53 ]
وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
وقال [ تعالى ]{[11025]} { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين ، وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء : ولهذا قال هاهنا : { وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقرأ بعضهم : { وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ }
قال التميمي ، عن ابن عباس : " درست " أي : قرأت وتعلمت . وكذا قال مجاهد ، والسُّدِّي والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، قال الحسن : " وَلِيَقُولُوا دَرَسْت " ، يقول : تقادمت وانمحت . وقال عبد الرزاق أيضا : أنبأنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت ابن الزبير يقول : إن صبيانا يقرؤون هاهنا : " دَرَسَتْ " ، وإنما هي : " دَرَسْتَ " .
وقال شعبة : حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال في قراءة ابن مسعود : " دَرَسَتْ " بغير ألف ، بنصب السين ووقف على التاء .
وقال ابن جرير : ومعناه انمحت وتقادمت ، أي : إن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديمًا ، وتطاولت مدته .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة أنه قرأها : " دُرِسَتْ " أي : قُرئت وتُعُلِّمت .
وقال معمر ، عن قتادة : " دُرِسَتْ " : قرئت . وفي حرف ابن مسعود " دَرَسَ " .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا حجاج ، عن هارون قال : هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود : " وليقولوا دَرَس " . قال : يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ{[11026]}
وهذا غريب ، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا ، قال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن الليث ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا أحمد بن أبي بَزَّة{[11027]} المكي ، حدثنا وهب بن زَمَعَة ، عن أبيه ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب
قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِيَقُولُوا دَرَسْت } .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث وهب بن زمعة ، وقال : يعني بجزم السين ، ونصب التاء ، ثم قال :{[11028]} صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[11029]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.