الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (105)

قوله تعالى : " وكذلك نصرف الآيات " الكاف في كذلك{[6628]} في موضع نصب ؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك . أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها . " وليقولوا درست " والواو للعطف على مضمر ، أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست . وقيل : أي " وليقولوا درست " صرفناها ، فهي لام الصيرورة . وقال الزجاج : هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه ، أي آل أمره إلى ذلك . وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا : درست وتعلمت من جبر ويسار ، وكانا غلامين نصرانيين بمكة ، فقال أهل مكة : إنما يتعلم منهما . قال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن ، وهو أن يكون معنى " نصرف الآيات " نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا ، فيذكرون{[6629]} الأول بالآخر . فهذا حقيقة ، والذي قاله أبو إسحاق مجاز . وفي " درست " سبع قراءات . قرأ أبو عمرو وابن كثير " دارست " بالألف بين الدال والراء ، كفاعلت . وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة . قال ابن عباس : معنى " دارست " تاليت . وقرأ ابن عامر " درست " بفتح السين وإسكان التاء غير ألف ، كخرجت . وهي قراءة الحسن . وقرأ الباقون " درست " كخرجت . فعلى الأولى : دارست أهل الكتاب ودارسوك ، أي ذاكرتهم وذاكروك ، قال سعيد بن جبير . ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم : " وأعانه عليه قوم آخرون{[6630]} " [ الفرقان : 4 ] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه . وهذا كله قول المشركين . ومثله قولهم : " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا{[6631]} " [ الفرقان : 5 ] " إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين{[6632]} " [ النحل : 24 ] . وقيل : المعنى دارستنا ، فيكون معناه كمعنى درست ؛ ذكره النحاس واختاره ، والأول ذكره مكي . وزعم النحاس أنه مجاز ، كما قال :

فللموت ما تلد الوالده{[6633]}

ومن قرأ " درست " فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وامحت ، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها . وقرأ قتادة " درست " أي قرئت . وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ " دارست " . وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز . قال : لأن الآيات لا تدارس . وقال غيره : القراءة بهذا تجوز ، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم ، ولكن معناه دارست أمتك ، أي دارستك أمتك ، وإن كان لم يتقدم لها ذكر ، مثل قوله : " حتى توارت بالحجاب " {[6634]} [ ص : 32 ] . وحكى الأخفش " وليقولوا درست " وهو بمعنى " درست " إلا أنه أبلغ . وحكى أبو العباس أنه قرئ " وليقولوا درست " بإسكان اللام على الأمر . وفيه معنى التهديد ، أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين ، كما قال عز وجل " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا{[6635]} " [ التوبة : 82 ] فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي . وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد ، إلى التليين والتذليل . و " درست " من درس يدرس دراسة ، وهي القراءة على الغير . وقيل : درسته أي ذللته بكثرة القراءة ، وأصله درس الطعام أي داسه . والدياس الدراس بلغة أهل الشام . وقيل : أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته . وقد درس الثوب درسا أي أخلق . ويرجع هذا إلى ، التذلل أيضا . ويقال : سمي إدريس لكثرة دراسته لكتاب الله . ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها . ودرست الكتاب درسا ودراسة . ودرست المرأة درسا أي حاضت . ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس ، وهو من الحيض . والدرس أيضا : الطريق الخفي . وحكى الأصمعي : بعير لم يدرس أي لم يركب ، ودرست من درس المنزل إذا عفا . وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش " وليقولوا درس " أي درس محمد الآيات . " ولنبينه " يعني القول والتصريف ، أو القرآن " لقوم يعلمون " .


[6628]:من ك.
[6629]:في ك: فيلحقون.
[6630]:راجع ج 13 ص 3.
[6631]:راجع ج 13 ص 3.
[6632]:راجع ج 10 ص 95.
[6633]:هذا عجز بيت، وصدره كما في المغني (حرف اللام): فإن يكن الموت أفناهم
[6634]:راجع ج 15 ص 195.
[6635]:راجع ج 8 ص 216.